الركن السادس من أركان الإيمان بهذا الدين الحنيف هو الإيمان بالقضاء والقدر، ولا يصح الإيمان إلاّ بالاعتقاد الجازم به، فمن أنكر هذا الركن فإنه يكفر ويخرج من الدين. والإيمان بالقدر يعني الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة سبحانه، والأصل أن يؤمن المرء بقضاء الله وقدره، وأن يمسك لسانه عن الخوض في دقائق القدر لعدم جدوى الخوض فيها، والأجدى من ذلك التوجه إلى أداء الأفعال المرضية لله تعالى وترك ما لا يرضيه. والإيمان بالقدر ثابت بالقرآن الكريم والسنة النبوية، ففي القرآن الكريم، قال تعالى مَا كَانَ عَلَى النّبِيِ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنَةَ اللّهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَهِ قَدَراً مَقْدُوراً، (الأحزاب ٨٣). وفي السنة النبوية قال صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإنَ لو تفتح عمل الشيطان رواه مسلم. ويمكن تعريف القدر بأنه ما قدره الله تعالى للمخلوقات قبل خلقها بناء على علمه وإرادته ومشيئته، ثم كتابته سبحانه كل ما قدره لها في اللوح المحفوظ لعلمه سبحانه بأنها ستقع في أوقات معلومة عنده وعلى صفات مخصوصة، ثم قضى بجريانها في الواقع حسب ما قدرها بناء على ربط الأسباب بالمسببات، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَ فِي كِتَاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَ ذَلِكَ عَلَى اللَهِ يَسِير، (الحديد: ٢٢). والإيمان بالقدر هو ثمرة إيمان العبد بوجود الله سبحانه وتعالى وبأنه يتصف في أسمائه وصفاته وأفعاله بالجلال والكمال الذي لا يعتريه أي نقصٍ بتاتاً: } الإيمان بعلم الله عز وجل، العلم الأزلي القديم المحيط بكل شيء؛ وبأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، قال تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَهُ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ، (آل عمران: ٩٢). }الإيمان بأنه سبحانه وتعالى سميع يحيط سمعه بكل شيء من المسموعات، وبصير يحيط بصره بكل شيء من المرئيات، قال تعالى: سُبْحَانَ الَذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنّهُ هُوَ السَمِيعُ الْبَصِيرُ، (الإسراء: ١). } الإيمان بقدرة الله ومشيئته وأنه عز وجل يفعل ما يختار وما يريد، وبأن كل ما يجري في هذا الكون يجري بمشيئته سبحانه وتعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ، (التكوير: ٩٢). ولكن، لا يجوز لأحد أن يتذرع بقدر الله ومشيئته لتبرير اختياره الكفر على الإيمان أو ارتكابه المعاصي وتركه الفرائض والطاعات، قال تعالى: سَيَقُولُ الَذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذّبَ الَذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَى ذَاقُوا بَأسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَ الظّنَ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَ تَخْرُصُونَ، (الأنعام: ٨٤١). والقدر ثلاثة أنواع: نوع لا قدرة للإنسان على رده، ويدخل في ذلك نواميس الكون وقوانينه وما يجري على العبد من مصائب وابتلاءات، وما يتعلق بالرزق والأجل والصورة التي عليها والنسب الذي ينتمي إليه والبيئة التي يعيش فيها، قال تعالى: وَلِكُلِّ أمَةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ، (الأعراف: ٤٣)، وهذا النوع من الأقدار لا حساب عليه، لأنه خارج عن إرادة العبد وقدرته في دفعه عن نفسه. والنوع الثاني من القدر لا قدرة للإنسان على إلغائه، ولكن يمكنه تخفيف حدته وتوجيهه مثل الغريزة والصحبة والبيئة والوراثة: } فالغريزة مثلاً لا يمكن للمرء كبتها أو إلغاؤها من كيانه، ولم يؤمر بذلك، وإنما أمر بتوجيهها إلى الحلال الذي أذن الشرع به وحث عليه وكتب عليه الأجر. } والبيئة التي يولد فيها الإنسان وينشأ ويعيش لا يمكنه اعتزالها بسهولة ولم يؤمر بذلك، وإنما أمر بتغييرها والانتقال منها إلى بيئة أكرم وأطهر عند الضرورة، قال تعالى: إِنَ الَذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأوْلَئِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً، (النساء:٧٩). والنوع الثالث من أنواع القدر فللعبد القدرة على دفعه ورده، فهي أقدار متصلة بأعماله الاختيارية التي يترتب عليها الثواب والعقاب، لأن العبد هنا يستطيع أن يفعلها أو يتركها، كالصوم والصلاة والبر بالوالدين والجهاد وعصيان أوامر الله وفعل المنكرات وترك الفرائض والعدوان على الحقوق، ويدخل في ذلك رد الأقدار بالأقدار، فالمرض مثلاً قدر، لكن يمكننا أن ندفعه عن أنفسنا بقدر التداوي. د. تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين، رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس
مشاركة :