تستضيف قاعة سفر خان في القاهرة حتى نهاية الشهر الجاري معرضاً لأعمال الفنانة المصرية الراحلة «إنجي أفلاطون». يُقام المعرض تحت عنوان «كفر شكر» وهو اسم القرية التي أنجزت فيها أفلاطون جانباً كبيراً من أعمالها المتعلقة بحياة الفلاحين. حرص القائمون على القاعة على التعريف بسيرة الفنانة، إلى جانب عرض أعمالها على نحو توثيقي، إذ ضمنت المعروضات بعض متعلقاتها وصورها الشخصية. أما الجانب الأهم فهو عرض فيلم تسجيلي قصير عن حياتها. الفيلم أُنتج في نهاية سبعينات القرن العشرين، وأخرجه ووضع له السيناريو واحد من أهم مخرجي السينما التسجيلية في تاريخ السينما المصرية وهو محمد شعبان. أما التصوير فتولاه المصور طارق التلمساني الذي استطاع بمهارة تقديم صورة قريبة وحالمة للقرية المصرية في نهاية سبعينات القرن العشرين، عبر مشاهد بالغة التعبير معتمدة في الغالب على الإضاءة الطبيعية. الفيلم هو أحد الأفلام التسجيلية القليلة التي تتناول حياة فنانين مصريين وهم أحياء، وهو يستعرض تجربة الفنانة إنجي أفلاطون عبر تتابع المشاهد بين بيتها في حي الزمالك وقريتها في دلتا مصر، وفيه تروي الفنانة بصوتها أبرز المحطات في مسيرتها الفنية والشخصية من نشأتها في بيت إحدى العائلات الارستقراطية، ثم بداية ارتباطها بالفن وإيمانها بفكرة العدالة الاجتماعية. ولدت أفلاطون العام 1924 ودرست الفن على يد الفنان كامل التلمساني، وهو من مؤسسي حركة «الفن والحرية» مع زملائه جورج حنين ورمسيس يونان وفؤاد كامل، وهم من رواد ورموز الفن المصري الحديث. كما تتلمذت على يد الفنان راغب عياد في القسم الحر بكلية الفنون الجميلة. وفي العام 1952 أقامت معرضها الخاص الأول. وصاحب نشاط إنجي أفلاطون الفني نشاط آخر ذو منحى سياسي واجتماعي، انخرطت فيه منذ وقت مبكر من حياتها، إذ ألفت عدداً من الكتب ذات الطابع السياسي، كان أولها كتاب بعنوان «ثمانون مليون امرأة معنا» وكتب المقدمة له عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين. وكان الثاني بعنوان «نحن النساء المصريات» وكتب مقدمته عبدالرحمن الرافعي. أما الثالث فهو «السلام والجلاء» وكتب مقدمته عزيز فهمي. ورغم محاولات العائلة إبعاد ابنتهم عن الانخراط في مجال النشاط السياسي عبر محاولة إقناعها بالسفر إلى فرنسا لدراسة الفن هناك، إلا أن إنجي أفلاطون رفضت ذلك بقوة، وكتبت في مذكراتها تقول: «لم يكن مقبولاً ولا معقولاً أن أترك مصر وأذهب لسنوات إلى بلاد الخواجات، وأنا أفكر بكل وجداني في عملية تمصير طويلة وقاسية للنفس. ضاعت من عمري ثماني عشرة سنة في المجتمع المغلف بالسوليفان، حتى لغتي القومية لا أملكها. فأي بؤس يحسّه الإنسان المعقود اللسان. حتى السابعة عشرة كانت لغتي هي الفرنسية، وحين بدأت أحتكّ بالناس لم أستطع حل العقدة من لساني... أمقطوعة أنا من شجرة إذاً؟»... تواصلت إنجي أفلاطون مع كبار المثقفين اليساريين في أربعينات وخمسينات القرن العشرين، وانفصلت روابطها بالمجتمع الذي كانت تعيش فيه وكرست أعمالها للتعبير عن المرأة والفلاحة المصرية وحياة البسطاء. واعتُقلت ضمن من اعتقلوا في الخمسينات بتهمة الانضمام إلى أحد التنظيمات اليسارية حيث قضت أربع سنوات كاملة في الحبس، لم تر أسرتها خلالها سوى مرة واحدة. وكانت تجربة السجن هذه من أكثر فتراتها ازدهاراً وإنتاجاً وتميزاً. راحت إنجي أفلاطون ترسم بنَهم كل ما تقع عليه عينها، على رغم كل المعوقات والتعقيدات والأجواء الصعبة داخل السجن. رسمت وجوه السجينات، كما عبرت عن معاناتهن وتوقهن للحرية. ورغم عدم تنوع المثيرات البصرية أمامها داخل أسوار السجن، إلا أنها حولت من هذه الأشياء البسيطة التي وجدتها حولها إلى عناصر ومفردات غاية في العمق. فامتلأت لوحاتها التي أنجزتها في تلك الفترة بعلاقات ومفردات دالة وذات مغزى إنساني، من القضبان الحديدية، إلى أفرع الأشجار المحيطة إلى أطراف أشرعة المراكب البعيدة البادية من وراء الأسوار. هذا الدور النضالي البارز الذي لعبته إنجي أفلاطون في تاريخ الحركة النسوية المصرية كان سبباً لاختيارها أخيراً من قبل أحد أهم متاحف الفن الحديث في الولايات المتحدة الأميركية، والمعروف اختصاراً باسم «موما» للاحتفاء بها وبأعمالها هذا العام، كواحدة من أبرز الفنانات المناضلات في تاريخ الحركة الفنية المصرية. يذكر أنه وقع الاختيار على أعمال إنجي أفلاطون للعرض ضمن برنامج العروض المتغيرة المصاحبة لبينالي فينيسيا في دورته الأخيرة التي أقيمت العام الماضي.
مشاركة :