فـي الـنــزعــة الإنسـانيــة لـلأدب والفــــن

  • 5/20/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لعل الميزة الأهم والجامعة والتي تعطي الأدب خلوداً وبقاء وتمنعه في أن يكون طي النسيان على الرغم من كل ما يقال حول توجهات وتيارات جديدة بدأت تسيطر على التجارب الإبداعية والفنية البصرية، هي تلك النزعة الإنسانية، التي ترد الإنسان إلى طبيعته الإنسانية ليحياها بشكل جديد، أو لتنشط خموله العاطفي، والحق أن قضايا التعاطف البشري هي السمة التي توحد آداب العالم، وتجعل التواصل بينها ممكناً، وهي السمة التي لن يمحوها الزمن بسهولة؛ لأنها غائرة في عمق الروح البشرية، تلك الروح التي لن تتمكن التكنولوجيا من محوها وإزالتها، وإن كانت تشوهها في أحايين كثيرة عبر صور بصرية وتشكيلية متعددة. وتحضر للمخيلة نماذج متعددة لذلك من آداب العالم وأدبنا العربي، تتجلى فيها الروح الإنسانية بأعلى صورها، فلو نظرنا في رائعة الروائي القرقيزي جنكيز إيتماتوف المعنونة بـ( وداعاً يا غولساري)، وهي من كلاسيكيات الأدب العالمي الخالدة، لوجدنا أن سر خلود هذا النوع من السرد تكمن في تلك النزعة الإنسانية الفياضة التي فاض بها السرد، وبطل السرد الذي استعار الكاتب عنوان روايته منه، وهو ( غولساري) وهو اسم الحصان الذي سيكون بؤرة السرد، وحمّالاً لكثير من تشظياته وأبعاده الدلالية، فهو النقطة المركزية التي كانت محرّضة للسرد، فاللحظة السردية الأولى التي يمسك بها السارد بتلابيب القارئ وتجعله يوغل في متابعة القراءة هي لحظة درامية حاسمة تتمثل في تبدد قوة هذا الحصان، ويتغير لونه، منذراً بلحظة موت وانهيار، فتكون هذه اللحظة وسيلة للعودة بالسرد عبر الخطف خلفاً ليستعيد بطل الرواية (باكسوف) ذكريات مع حصانه وحياتهما المغمسة بالتعب والألم. وإذا تركنا هذه اللحظة الإنسانية عند إيتماتوف، فسنجد أن ثمة صوراً مشابهة، أو مقاربة لمثل تلك اللحظة في أدبنا العربي، قديمه وحديثه، فحصان عنترة بن شداد هو لسان حال صاحبه، وهذا ما يمكن أن نلحظه في البيتين الشهرين: فازورّ من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي فالشاعر راح يتأمل مواجع حصانه، فبدت في صورة الحصان صورة الشاعر نفسه، بكل ما تحمله نفسه من مواجع وآلام خلفها المجتمع، وربما كان الحصان معادلاً موضوعياً لذات الشاعر، من دون أن ننفي ما أصاب الحصان في أرض المعركة، لكننا نشير هنا إلى اندغام مشاعر الشاعر بحالة الحصان في صورة بليغة في التعبير عن حالة إنسانية لا يملك القارئ إلا أن يتفاعل معها. ولا تخفى مثل هذا النزعة في شعرنا المعاصر، ولعل قصيدة الشاعر محمد الفيتوري خير ما يعبر عن هذه الحالة في صورة مشهدية بصرية تعكس لحظة إنسانية عالية؛ إنها صورة الحصان في قصيدته (تحت الأمطار) التي يقول فيها: أيها السائق رفقا بالخيول المتعبة! قف.. فقد أدمى حديد السرج لحم الرقبةْ قف.. فإن الدرب في ناظرة الخيل اشتبه" هكذا كان يغني الموت حول العربةْ.. لا شكّ أننا أمام لحظة تعاطف إنساني مع هذا الحصان الذي أدماه السرج، فصارت الأمطار دموعاً غزيرة تنقل حالته، وحالة الشاعر الطافحة بالمشاعر، إننا أمام لحظة إنسانية عالية، تتمظهر في موقف الإنسان أمام رفيقه التاريخي الحصان في عبوره من لحظات البطولة، ولحظات الانتكاسات إلى لحظات الحضارة بكل ما تحمله تشويه لروح الإنسان. لا شك أن الأدب خصوصاً، والفن عموماً هو مرآة عاكسة لكل هذه اللحظات البشرية، وهي تواجه في عصرنا اختبارات إنسانية قاهرة، فما أجمل أن يؤدي وظيفته الجمالية عبر الاحتفاء بهذه اللحظات التي تمثل في بساطتها وهامشيتها أروع الصور الأدبية، ومن قال إن على الأدب أن يعكس اللحظات الكبرى فقط في حياة البشرية؟ محمد الفيتوري

مشاركة :