يبدو المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي متشائما جدا من اتساع الموجة الدينية في هذه الأيام. وهو موقف غريب من جانب شخص يصنف باعتباره رجل دين وباحثا في العلوم الدينية. يوضح الرفاعي في كتابه المثير «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين» أسباب تشاؤمه بتعبيرات محددة. بعضها بسيط جدا وبعضها في غاية التعقيد، لكن القضية المحورية التي شكلت خلفية الكتاب هي ما يصفه بأدلجة الدين. أي انتزاع مضمونه الروحي، واستخدامه سلعة في سوق السياسة، أو مركبا للقوة والسلطة والنفوذ. أدلجة الدين أسوأ أثرا من الإلحاد، حسب رأي الرفاعي. قد تكون لا دينيا، لكنك منسجم مع الكون الذي تعيش فيه، مشاركا في عمرانه. أما الدين المؤدلج فهو منقطع عن الوظيفة الأولى للإيمان، أي تعظيم قيمة الإنسان، وهو، من جهة أخرى، منفصل عن العالم الحقيقي، يدور حول ذاته، منشغل بالتغلب على بقية الخلق عن مشاركتهم في عمران الدنيا. الدين المؤدلج لا يرى غير نفسه، لا يرى العالم المتغير ولا يرى البشر المختلفين، ولهذا فهو لا يشعر بتحولات الزمان. ونتيجة لهذا فهو لا يسهم في تلك التحولات، ولا يشجع أتباعه على المشاركة فيها. لعل هذا يفسر، جزئيا على الأقل، سبب انكفاء المسلمين على أنفسهم وضآلة إسهامهم في تيارات التطور التي تموج في عالم اليوم. إسلامنا بحاجة إلى «مصالحة بين المتدين ومحيطه والعصر الذي يعيش فيه، والإصغاء لإيقاع الحياة المتسارعة التغيير، ووتيرة العلوم والتكنولوجيا التي تفاجئنا كل يوم بجديد تتبدل معه صورة العالم». هذي هي خلاصة الرسالة التي أراد الرفاعي إبلاغها لمن يهمه أمر الدين وأمر المسلمين. كان الرفاعي وما زال قريبا من الجماعات الإسلامية الناشطة في الساحة، لكنه يشعر بإحباط شديد إزاء ما حققته من نفوذ جماهيري وانتصارات سياسية. وسبب إحباطه يكمن فيما يظنه انقلابا في طبيعة الجماعة الدينية واستهدافاتها. في زمن سابق كان رجال الجماعة يتحدثون عن دين يدعو إلى المحبة والتعاطف مع القريب والغريب، دين يقدس العلم ويعلي شأن الإنسان، دين يمجد الإيثار وإنكار الذات، ويعتبر الجزاء الأخروي مكافأة تستحق التضحية بالمكاسب الدنيوية. أما اليوم فإن رجال الجماعة ذاتهم مشغولون بالصراع مع القريب والغريب على النفوذ ومكاسب السياسة. الكلام عن المحبة والتعاطف حل محله خطاب مشحون بمفردات الفخر بالقوة والمفاصلة مع المختلف وتهديد المخالف. مفردات مثل الحلم واللين والحكمة والسلام حلت محلها لغة الحرب والقوة والغلبة والدم وتمجيد البندقية. وباتوا يتحدثون عن «هلاك» مناوئيهم و«الدعس» على معارضيهم كما لو أن الأمر لعبة كومبيوتر. لم يعد السعي لرضا الله ورجاء عفوه محور حياتهم كما في الماضي، فيومياتهم مشغولة بحسابات الأرباح والخسائر في سوق السياسة والنفوذ الجماهيري وحساب عدد الأتباع والمحازبين. حقق الإسلاميون كثيرا مما سعوا له من القوة والنفوذ. وكان حريا بهم أن يوجهوا جهدهم لحاجات شعوبهم، وأكثرها حرجا استئصال الفقر والارتقاء بالعلم وتنشيط الاقتصاد وإصلاح جهاز الدولة والمصالحة مع العالم. لكن الواضح أنهم في وادٍ آخر، فهم ما زالوا مشغولين بتكرار قصص الماضي وأوهامه. هذه بعض النتائج المأساوية لتحويل الدين من «رحمة للعالمين» إلى آيديولوجيا. ولهذا يرى الدكتور الرفاعي أننا بوصفنا مسلمين بحاجة إلى إنقاذ أنفسنا، كما أننا بحاجة إلى إنقاذ ديننا. نحن بحاجة إلى استعادة المضمون الإنساني في الدين الحنيف، الدين الذي كان رحمة وطريقا للخلاص وتحرر الإنسان من عبودية القوة وعبودية الماضي.
مشاركة :