على رغم أنه كان مقتضباً إلى حد كبير، مقارنة بخطابات رؤساء مصر السابقين في هكذا مناسبات، انطوى خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسي أمام مجلس النواب (البرلمان) المصري أخيراً، على عدد من الرسائل المهمة والجديدة من نوعها. فبادئ ذي بدء، كان الخطاب إعلاناً رسمياً عن إنهاء ازدواجية السلطة التي تلقي بظلالها على البلاد منذ 2012، بعدما أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها الشهير بحل أول برلمان منتخب بعد ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، وإيذاناً بتدشين نهج تقاسم السلطة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات. فقد أقدم الرئيس السيسي، على تسليم السلطة التشريعية إلى البرلمان ليباشر مهامه التشريعية والرقابية، بعدما كان الرئيس والحكومة يحتفظان بحق التشريع وإصدار القوانين في صورة استثنائية خلال السنوات الثلاث المنقضية. وفي الخطاب نفسه، حرص على تأكيد شرعية الانتماء للمؤسسة العسكرية العريقة في الوطنية، ثم الإرادة الشعبية التي ناشدته تحمل المسؤولية بعد خوض الانتخابات الرئاسية. وهو قال في هذا السياق: «تعلمتُ في المؤسسة العسكرية المعاني الوطنية ومبادئ الشرف والإخلاص والتضحية وإنكار الذات». وتطرق كذلك إلى قضية الديموقراطية، حيث أشار أربع مرات إلى حرصه على إقرارها وإرساء دعائم الدولة المدنية الحديثة، الأمر الذي يعد تطوراً نوعياً غير مسبوق في خطب السيسي، الغارق بشدة في مجابهة التحديات الأمنية والاقتصادية الجمة التي تتربص بالبلاد. ولعل هذا التطور يتناغم بقوة مع ما سبق وأشار الرئيس إليه في مداخلته الهاتفية مع أحد البرامج التلفزيونية قبل أسابيع في ما يخص العمل على تحقيق التوافق بين استعادة الدولة وتعزيز الأمن وتحقيق التنمية من جانب، وإقرار الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان من جانب آخر. وفي ما يمكن اعتباره تعريجاً على المشاريع المتعلقة بالحجر كبناء الجسور وحفر الأنفاق وشق القنوات واستزراع الأراضي وإقامة المحطات النووية ومشاريع الطاقة، إلى البرامج المتصلة بالبشر، كالنهوض بمستوى التعليم والصحة، والارتقاء بمؤسسات التنشئة، وتأسيس بنك المعرفة، بما يعين على إعادة بناء الشخصية المصرية، أوْلى خطاب السيسي اهتماماً لافتاً للمرأة، التي ذكرها ثلاث مرات. كما أفرد اهتماماً خاصاً بالشباب، وتواصلاً مع مداخلته الهاتفية مع أحد البرامج التلفزيونية بهذا الخصوص، جدَّد السيسي التركيز على محورية الشباب في تفكيره من أجل المستقبل، حيث خصَّهم بالذكر أربع مرات. وأشار إلى تكليفه الحكومة والمحافظين، ضرورة تمكين الشباب وتعيينهم كمساعدين لهم، باعتبارهم شريكاً أساسياً في بناء دولة المستقبل، لافتاً إلى أنه استخدم سلطاته الدستورية في إصدار العفو عن مجموعات من الشباب الصادرة بحقهم أحكام بالحبس، إدراكاً منه بأن هذا الوطن يتّسع للجميع، ويقيناً بأن احتواء الشباب ضرورة ملحة. وفي مسعى منه لتأكيد احترامه استقلالية البرلمان والنأي بنفسه عن استتباعه، ناشد السيسي أعضاء مجلس النواب مباشرةَ مهامهم الرقابية والتشريعية بحرية وتعاون مع الحكومة، مشدداً على ضرورة أن يكون البرلمان الذي بدأ جلساته في الأول من كانون الثاني الماضي، حراً وممثلاً حقيقياً لرغبات الشعب. وحثَّ النواب على أداء مهامهم في سياق الممارسة الديموقراطية السليمة من دون استعراض إعلامي أو تنابذ سياسي، وأن يُعلوا من مصلحة وطنهم وحقوق ناخبيهم ويتساموا عن أية مطامع حزبية أو أهواء فردية. وعلى رغم ما يموج به من طروحات بناءة، يظل خطاب السيسي في مسيس الحاجة إلى آليات ناجزة تكفل تحويله إلى واقع فعلي، من خلال تهيئة البيئة القانونية المساعدة وتطويع الأجواء الإدارية والبيروقراطية المواتية، ووضع البرامج والخطط والمشاريع المناسبة، مع بلورة ميكانيزم خاص وصارم للمتابعة والمراجعة والتقويم، بما يضمن استمرار مسيرة العمل والعطاء من دون توقف وبغير تعثر أو انحراف. * كاتب مصري
مشاركة :