بمتابعة التطورات الدائرة حول السياسات النفطية من قبل الدول المنتجة والمستهلكة يتضح، أن السياسات النفطية للمجموعتين خرجت عن أطارها التجاري الخاص بالعرض والطلب لتدخل أكثر من أي وقت مضى ضمن الحسابات الجيوسياسية، وبالأخص الحرب الروسية الأوكرانية، مما يفسر التقلبات الحادة في أسواق النفط وتذبذبها المتواصل. ولشرح ذلك بصورة أكثر تفصيلاً لا بد من التطرق إلى سياسات المنتجين والمستهلكين، والتي تتفاوت انطلاقاً من مصالح الطرفين، خصوصاً بعد أن أصبحت السياسات النفطية للدول المنتجة أكثر استقلالاً بفضل تعدد مراكز الاستهلاك الرئيسية بعد تحول بعض البلدان الآسيوية لمستهلكين كبار للنفط والغاز. وفيما يتعلق بالبلدان الغربية، فقد حدثت تغيراتٌ جوهريةٌ في سياساتها منذ بدية الأزمة الأوكرانية في فبراير 2022، إذ قللت من اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية متحمِّلةً أعباءَ ثقيلةً ونِسبَ تضخم مرتفعةً بعد فرض عقوبات قاسية على روسيا بسبب الحرب، معتقدة أن هذه العقوبات كافية لردع روسيا وتراجعها، إلا أن الاقتصاد الروسي ظل متماسكاً رغم الأضرار التي لحقت به، حيث ساعدت أسعارُ النفط المرتفعة على تعويض الخسائر الناجمة عن المقاطعة، وقد ذكرت وكالةُ الطاقة الدولية مؤخراً أن «صادرات النفط الروسي سجلت في مارس الماضي أعلى مستوى لها منذ ثلاث سنوات، رغم العقوبات»، وهو ما دفع دول «الناتو» للبحث عن بديل للتأثير في المنبع الرئيسي للعائدات الروسية، محاوِلةً تخفيضَ أسعار النفط إلى حدها الأدنى. ورغم انخفاض أسعار النفط إلى ما دون 80 دولار للبرميل، وهو معدل لا يمكن أن يؤثر كثيراً على عائدات روسيا رغم تقديمها خصوماتٍ على مبيعاتها من النفط، علماً بأنه تزامنت مع هذا التوجه زيادةٌ في إنتاج النفط الصخري بالولايات المتحدة بمقدار 41 ألف برميل يومياً ليصل إلى 9.33 مليون برميل في اليوم، وذلك على الضد من سياسة الإدارة الأميركية الحالية الرامية إلى تخفيض إنتاج النفط الصخري لأسباب بيئية، إلا أن الأفضلية هنا منحت للمصالح الجيوسياسية، كما استخدم المخزون الأميركي من النفط للتأثير في مستويات الأسعار باتجاه خفضها، غير أن انخفاض الخزين النفطي بصورة كبيرة يعرض أمن الطاقة هناك لمخاطر حقيقية، وهو ما يؤدي إلى الاضطرار لإعادة ملء خزانات الاحتياط إلى مستوياتها السابقة ويرفع الطلب على النفط ويزيد الأسعار. لقد واجهت هذه السياسةَ عقباتٌ عديدةٌ، وفي مقابلها هناك السياسات النفطية للدول المنتجة، والتي تسعى للمحافظة على مصالحها وتنفيذ برامجها التنموية من خلال الحصول على عائدات عادلة لصادراتها، فتدخلت لاستمرار بقاء الأسعار عند مستويات عالية، حيث حققت نتائج إيجابية حتى الآن والتي تحمل لبعض أعضائها، كالدول النامية أهميةً اقتصاديةً، في حين تحمل للأعضاء الآخرين جوانبَ اقتصاديةً وجيوسياسية. ويشكل هذا التفاوت بين سياسات الدول المنتجة والمستهلكة في الغرب عقبة كأدء أمام تنفيذ التوجهات الغربية الرامية إلى تخفيض أسعار النفط، إذ لا يمكن لوم الدول المنتجة باتباع هذه السياسة النفطية، فمساعي الغرب سوف لن تؤدي إلى الأضرار بالاقتصاد الروسي فحسب، وإنما ستلحق أضراراً أشد بالبلدان المنتجة للنفط في منظمة «الأوبك» وبالدول النامية المنتجة للنفط بشكل عام، وستنجم عنها أزماتٌ اقتصادية سيكون من الصعب معالجتها على المدى القريب، خصوصاً وأن هذه الدول ليست طرفاً في الحرب الدائرة في أوكرانيا، بل تبذل جهوداً كبيرةً لحلها سلمياً من خلال تمتعها بعلاقات طيبة مع طرفي النزاع، وهو ما يخدم الاستقرار الاقتصادي والأمني في العالَم. إذن يمكن القول بأن الصراع حول النفط اكتسب مؤخراً مضامينَ جديدةً ترافقت مع تغيرات كبيرة في موازين القوى العالمية، وهو ما وضع المصالحَ على قمة أولويات الدول المنتجة، على خلاف التوجهات السابقة التي تتم فيها مراعاة التحالفات والتي أثّرت في مستويات الأسعار، فالنفط والغاز ثروات ناضبة ولا بد من استغلالهما لتسريع معدلات التنمية وخلق بدائل دخل جديدة. وإذا ما اعتمدنا المصالحَ، كمحدد للسياسات، فلا أحد يمكنه اتهام الدول المنتجة أو تعويضها مستقبلاً عن ما فقدته من عوائد عادلة تستحقها لصادراتها من النفط والغاز.
مشاركة :