الأسطورة قصة خيالية تتميز بعمقها الفلسفي (كأساطير الخلق وبدء الحياة) وتعظيم أبطال يتجاوزن قدرات البشر (كالآلهة اليونانية القديمة).. والأسطورة رغم ما فيها من مبالغات يدركها السامع، تحاول الإجابة على تساؤلات عميقة مثل كيف بدأ الكون وظهر الإنسان ومكان ذهابنا بعد الموت...إلخ وفي المقابل هنا التاريخ الذي أعتبره توثيقاً شبه أمين لأحداث الماضي.. وأقول (شبه أمين) لأنه يفترض بهذا التوثيق أن يكون نزيهاً ومحايداً وبعيداً عن التوجيهات والميول.. يفترض ألا يتعرض للتشويه والتغيير (قبل تدوينه) أو للتشذيب والتعديل (وقت تدوينه) أو للنقص والإضافة (في العصور التي تلت تدوينه)... ... ولكن للأسف نادراً ما يسلم التاريخ من هذا كله.. فالتاريخ ثلثه مصنوع، وثلثه (غير مطبوع) وثلثه الأخير لم يسلم من ميول المؤرخ أو توجيهات المنتصر.. يتم تدوينه غالباً في وقت متأخر من الحدث نفسه (ومثال ذلك أناجيل عيسى التي كتبت بعد وفاته بثلاث مئة عام).. وخلال تدوينه يتعرض للتشذيب والتعديل لأن طبيعة "الكتابة والتوثيق" تقتضي الحرص والتنميق وتقمص المؤرخ شخصية البطل.. تخيل نفسك وقد ظهرت على شاشة التلفزيون للحديث عن أحد الشخصيات الاعتبارية المهمة.. هل ستبدأ بسرد سلبياته أو التحدث عنه بسوء؟.. ولو طلب منك كتابة مقال عنه في الصحيفة هل ستكتبه بنفس الطريقة الصريحة التي تتحدث بها عنه مع أصدقائك المقربين؟.. هذا هو ببساطة حال المؤرخ.. تتغير شخصيته وأسلوب كتابته بمجرد اتخاذه قراراً بتوثيق الأحداث أو تم توجيهه رسمياً لفعل ذلك.. والأسوأ من ذلك أن المؤرخ (خلال التدوين) يصعب عليه أن يكون محايداً بالفعل.. فهو في النهاية بشر يتخذ موقفاً سلبياً أو إيجابياً مما يكتب فلا يسلم من المبالغة والتحيز والتنميق وتجاهل العيوب.. أنت بنفسك تفعل ذلك حين تُسأل عن شخص تعرفه فتتأثر إجاباتك بموقفك منه ومدى تشاركه أو اختلافه معك في الرأي... أما الخطير فعلا فهو أن التاريخ يتم تشذيبه وتحويره (عدة مرات) بحسب الأحداث والإملاءات المستجدة في القرون التالية.. خذ كمثال ماحدث بعد انقسام المسلمين بعد معركتي الجمل وصفين؛ حيث لم يكتف كل طرف بتوثيق مساوئ الطرف الآخر بل وظهرت أحاديث موضوعه ترفع من قدر هذا وتخفض من قدر ذاك.. وحين استلم العباسيون زمام الخلافة لم يكتفوا بنبش قبور الأمويين بل ونبشوا تاريخهم وأعادوا كتابته بطريقة مشينة تظهرهم كخارجين عن الدين ومحاربين لآل البيت الكريم.. وفي أيامنا انقسمت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى 73 شعبة تملك كل منها كتباً في التاريخ والفقه والحديث تختلف بشكل واضح عما هو موجود في كتب الطوائف الأخرى! لهذا السبب.. وبمرور الزمن.. يتحول التاريخ الحقيقي للشعوب إلى قوالب أسطورية ينحتها الأحياء لا الأموات.. لهذا السبب لا أؤمن شخصياً بوجود تاريخ نقي أو سليم 100% وأعتقد أنه من الأسلم بدل أن نُدرس التاريخ على علاته أن نُدرس طلابنا "مناهج البحث التاريخي".. أن نشجعهم على البحث، والتمحيص، والقياس، وتحكيم المنطق، والتأكد من وجود المواقع، ومقارنة الأزمنة والمصادر بما يوازيها لدى الأمم الأخرى! اليوم أصبحت الكتب المدرسية في اليابان وبريطانيا (حيث توجد أقدم سلالتين حاكمتين في التاريخ) تنبه طلابها إلى أن بعض الأحداث تحتاج لتأكيد، وبعض الشخصيات قد لا تكون حقيقية أو موجودة (مثل الملك آرثر في التاريخ الإنجليزي والإمبراطور هيتجناري في التاريخ الياباني)!! ... وما يحثنا نحن على تدريس مناهج البحث في مدارسنا؛ أن جيل اليوم أصبح أكثر تفتحاً واستقلالية (لدرجة لم يعد المراهق يصدق سواليف جده الذي تجاوز الثمانين) فكيف تتوقعون منه تصديق أحداث تمت صياغتها قبل ثمانين جيلاً من ولادته بنسخ مختلفة وأساليب متناقضة.. من غير المعقول أن يكتب المنتصر التاريخ، ويصنع المهزوم نسخاً بديلة، ثم نطالب أبناءنا بتصديق الجميع دون نقاش..
مشاركة :