بدعوة كريمة من الأمير سعد آل سعود، عميد كلية الإعلام والاتصال في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كنت أحد المتحدثين في مؤتمر الإعلام الوطني الأسبوع الماضي. خصتني اللجنة العلمية للمؤتمر ممثلة في رئيسها أ. د. فهد العسكر وزملائه بموضوع الاستثمارات الإعلامية السعودية العابرة للحدود مع نخبة من قامات المجال الإعلامي وهم على الترتيب أ. د. محمد الحيزان الأستاذ الأكاديمي المعروف وعضو مجلس الشورى الأسبق و أ. بندر عسيري عضو مجلس الشورى الحالي والرئيس الأسبق لهيئة الإعلام المرئي والمسموع.وقد حضرت لهذا اللقاء ووفقا للمحاور المقترحة عدة نقاط أشارك بها، ولقد أذهلني المشهد والحضور المميز للطالبات والطلاب والأخوة والأخوات من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة والجامعات السعودية الأخرى. تواجد جماهيري مميز النسبة الأغلب منهم في حدود 75% إلى 80 % من الإناث والبقية للذكور.. وأعتقد أن جريدة مكة الغراء قد نشرت بعض الصور في حينه.وبالعودة للموضوع الأساسي حول الاستثمارات السعودية الإعلامية العابرة للحدود فقد تجاوزت الاستثمارات العربية في مجال وسائل الإعلام النطاق المحلي لكل دولة على حدة إلى النطاق الإقليمي عبر الدول العربية Pan Arab، أغلب هذه الاستثمارات سعودية. وكيف لا ومشاركة الاقتصاد السعودي في المنطقة العربية لا يقل وحده عن الثلث، اعتمادا على تميز الاستثمار السعودي بخصائص محددة أهمها اتساعه وقوته الشرائية ومواسمه العديدة، وعلى طبيعة المحتوى اللغوي الموحد لمجتمع عربي قوامه يزيد عن 400 مليون نسمة تقريبا، وبالرغم من الحدود الجغرافية لعدد 22 دولة مستقلة ذات سيادة فقد بلغت أغلب هذه الاستثمارات العربية أو معظمها كونها سعودية.قدرت مجلة التسويق الخليجي Gulf Marketing Review في بدايات الألفية الثانية هذه الاستثمارات لتصل إلى 200 مليار دولار أمريكي وبإجمالي دخل تقديري لا يتجاوز 20 مليار دولار تقريبا لإجمالي الإعلانات فقط أي ما نسبته 10% من إجمالي قيمة هذه الاستثمارات سنويا، وبكل تأكيد فإن الاستثمارات الإعلامية هي استثمارات طويلة الأجل طبعا إذا نجحت اقتصاديا ومهنيا في تحقيق أهدافها.تركزت الاستثمارات الإعلامية العربية في معظمها على مستويات تنظيمية رئيسة أو مؤسساتية أساسية كالتالي:1 - مؤسسات حكومية عامة (وزارات للإعلام أو هيئات إعلامية أو مؤسسات إعلامية تابعة للدولة بشكل مباشر) وذلك بالاستثمار في البنية التحتية لوسائل الإعلام من أقمار اصطناعية ومنصات رقمية ضمن تحول رقمي كبير تشهده المنطقة في السنوات الأخيرة، استثمارات عربية ضخمة تجاوزت 3 مليارات دولار أمريكي لأكثر من 200 قمر اصطناعي يتم إطلاقها عبر منصات الإطلاق العالمية بتكلفة قد تصل إلى 200 مليون دولار أمريكي، وتعتبر السعودية وحدها من أوائل وأكبر الدول العربية التي تمتلك أقمارا اصطناعية تقدر بحوالي 17 قمرا اصطناعيا أولها عربسات والذي بلغت نسبة الاستثمار السعودي وحده حوالي 54% . ويقسم الدخل السنوي لهذه الأقمار الاصطناعية بنسبة تصل إلى 55% لإيجار القنوات التليفزيونية والإذاعية المشفرة وغير المشفرة، و 45% للاتصالات والخدمات الأخرى غير الإعلامية.لعل التحول الرقمي في أغلب الدول العربية يشكل قفزة نوعية في التكاليف ويتصدر الاستثمار السعودي المشهد بالنسب الأعلى عالميا وليس إقليميا فقط، ويتوقع أن يتم استثمار نحو 167 مليار دولار في عام 2030م في المملكة العربية السعودية وحدها، وجميع هذه المشاريع عوائدها الاستثمارية عالية في تطبيقات ومنصات رقمية سعودية مثل علم وسدايا وغيرهم من وسائل البنية التحتية والتي تفاخر بها السعودية سائر العالم.2 - مؤسسات شبه حكومية عامة (لا تتبع الدولة بشكل مباشر ولكنها تأسست وفق تراخيص رسمية وتوجيهات حكومية أو حتى تعيينات وظيفية عليا معلنة أو غير معلنة) تركزت هذه المؤسسات في الاهتمام بوضع ضوابط ومعايير الحوكمة لاستخدامات وسائل الإعلام المختلفة وتنظيم أساليب العمل فيها وكذلك إصدار التراخيص الإعلامية اللازمة للنشر والبث في كل دولة على حدة. ولعلي أتذكر هنا تجربة البث الإذاعي لقنوات إف إم في السعودية وهي من انجح التجارب العربية.. عندما تم منح 7 رخص إذاعية خاصة تقدر تكلفة الرخصة لمدة 3 سنوات في حدود 100 مليون دولار أمريكي.. ولا أدري إن كانت هذه التراخيص لا زالت تسدد هذه المبالغ كل 3 سنوات أم لا؟ وقبل تجارب الهيئات كانت المؤسسات الصحفية والإعلامية أيضا في أغلب الدول العربية لها وضعية خاصة أما قومية رسمية أو إعلامية شبه رسمية تخضع لشروط وزارات الإعلام في كل دولة، كما هو الحال في السعودية، حيث يحق العمل لهذه المؤسسات والمنشأة بأوامر حكومية ولا يحق لها نظاما العمل كمؤسسات تجارية علاوة اعتماد التعيينات الرئيسة فيها وكذلك الإعفاءات منها على موافقة ودعم وملاحظات وزارات الإعلام الرسمية في كل دولة.3 - مؤسسات خاصة غير حكومية يفترض أن تعتمد على مقومات اقتصادية واضحة وأسس تجارية محددة (شركات أو مكتب تمثيل أو فروع لمجموعات قابضة أوسع) تمارس العمل الإعلامي بحرية تجارية نسبية في اتخاذ القرارات اللازمة ووفقا لمنهجية اقتصادية واضحة ومحددة. بدأت بمؤسسات صحفية عربية مهاجرة لأوروبا عبر ما سمي آنذاك بالصحف (جرائد ومجلات) عبر الدول العربية Pan Arab وهو مفهوم ابتكرته الصحافة اللبنانية تحديدا لبعض صحفها التي تصدرت أوروبا إثر الحرب الأهلية في لبنان، ويفترض هذا المفهوم أن الصحف عبر الدول العربية هي التي توزع خارج أماكن صدورها أرقاما أكبر مما توزع محليا.. ولم ولن ينطبق هذا التصنيف إلا على بعض الصحف اللبنانية فقط ثم تلتها مؤسسات إعلامية عربية مثل المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق ثم دار الحياة السعودية بإطلاق مطبوعاتها من أوروبا والعديد من الدول الأخرى.تركزت أغلب استثمارات المؤسسات الصحفية والإعلامية التقليدية في الإنتاج الطباعي عبر الأقمار الاصطناعية والطباعة الورقية وما يستلزمه من مكينات طباعة ضخمة ومستلزماتها من ورق ومواد وأحبار، لذا كانت أغلب استثمارات المؤسسات الصحفية العربية في الداخل والخارج تعتمد على المطابع حيث حرصت كل مؤسسة على شراء مطابع ضخمة وحديثة باستثمارات تصل إلى عشرات الملايين من الدولارات الأمريكية رغم محدودية عدد مطبوعاتها والمنافسة السلبية الشديدة غير المرشدة على الكتب المدرسية والمطبوعات الأخرى فيما بعدولعل فيما تقدم لمحة بسيطة وسريعة وموجزة عن طبيعة الاستثمارات العربية في مجال وسائل الإعلام إلا أن أغلب هذه الوسائل عانت وتعاني من تقليدية الدخل فيها اعتمادا على التوزيع الورقي سابقا ثم الإعلان التجاري التقليدي لاحقا. وقد خسرت هذه المؤسسات الكثير لعدم مواكبة التقنية الحديثة في تطوراتها المذهلة، وبالإضافة لارتفاع هذه التكاليف إلا أن الإيرادات والمداخيل لا تزال محدودة نسبيا بعد أن فقد التوزيع أرقامه المليونية وبعد أن فقد الإعلان أرقامه المليارية تدريجيا خلال السنوات العشر الأخيرة.وقد تبدو الصورة قاتمة للغاية لاستثمارات وسائل الإعلام في المنطقة العربية وتزداد هذه الصورة في غياب دراسات الجدوى الاقتصادية اللازمة لهذه المشاريع والتي تجاوز أعداد القنوات الفضائية 1750 قناة غير مشفرة وهو وضع غير مألوف في شتى أنحاء العالم، بالإضافة لغياب المراجعة المحاسبية الدقيقة والمدققة الختامية لهذه المشاريع من قبل جهات اختصاص معتمدة تراعي الشفافية والحوكمة، علاوة على غياب القياسات الفعلية المعتمدة والمدققة لتصنيف قرائية ومشاهدة والاستماع لهذه الوسائل وذلك لتقييم المحتوى المقدم بشكل علمي ومهني سليم يحافظ على مقدرات هذه الاستثمارات واستدامة تحقيقها لأهدافها المرجوة.تبرز هنا تجربة مجموعة آرا الإعلامية وتجربتها السعودية المتميزة في إطلاق مجموعة قنوات إم بي سي في لندن أولا ثم الانتقال إلى دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة وجاري الآن توطين هذه الاستثمارات في المملكة بشكل سريع، وتلت ذلك مجموعة قنوات روتانا ثم التجربة السعودية في القنوات المشفرة مثل مجموعة قنوات أوربت ثم راديو وتليفزيون العرب أيه أر تي ثم أوربت والشو تايم معا في أو أس أن، ولا يجب أن ننسي أيضا الشركة العربية الأمريكية في مدينة واشنطن دي سي والتي أنشأت قناة إذاعية بالراديو ثم اتبعتها بقناة إذاعية تليفزيونية ما لبثت أن تحولت في ملكيتها إلى إم بي سي، وكلها تجارب استثمارية سعودية رائدة ومتميزة أغلبها نجح وبعضها تعثر للعديد من الأسباب.لم تقتصر الاستثمارات السعودية في الخارج فقط فقد امتدت أغلبها إلى الداخل بشكل مباشر أو غير مباشر في كافة الوسائل الإعلامية المختلفة، وقد كان هناك مشروع ضخم لم يكتب له النجاح كأول باقة تليفزيونية تعتمد على الموصلات (كابلات) لا سلكية من خلال مجموعة آرا، كما كان لشركة أوربت تجربة أحد المستثمرين في مجال الإعلام في الشروع في بدء قناة بي بي سي العربية لتبث من الرياض إلا أن هذه القناة لم تستمر طويلا بسبب بعض التقارير الإعلامية غير المناسبة ومن المفارقات أن بعد إغلاق هذا المكتب في الرياض لم يعود العاملين فيه إلى لندن أو أمريكا من حيث أتوا ابتداء ولكنهم شكلوا مرات إطلاق قناة الجزيرة في قطر، وللأسف الشديد في فترات الرخاء والحماس لم يفكر في ذلك الأمر أغلب مؤسسي تلك الاستثمارات وانتهي الحال للأسف الأشد بأصحاب الجيوب العميقة إلى الهاوية السحيقة وبدلا من أن تسلك تلك الوسائل طرق السلامة الاقتصادية المعروفة انجرفت أغلبها للأسف الأشد إلى أساليب الندامة، كما أنه يعول على صندوق الاستثمارات العامة في دعمه وتمويله للمشروعات الاستثمارية السعودية خصوصا في مجالات الإنتاج والتشغيل والتطوير.والأمل في الله كبير بالنسبة للاستثمارات السابقة واللاحقة جميعا مع أهمية حماية هذه الاستثمارات مهنيا واقتصاديا عبر قياسات دقيقة للبرامج قبل الإنتاج ثم قياسات أدق للمشاهدة بعد الإنتاج. ويحدونا الأمل فيما تقدمه شركة التصنيف الإعلامية MRC وبالله التوفيق.
مشاركة :