يعيد الكاتب الروائي التشيكي يان نيامتس في روايته "أشكال الرواية العاطفية" كتابة حطام علاقة حب جمعته مع طالبة جامعية لست سنوات عبر وضع قارئه في طرق الكتابة عن الحب، متحولا إلى شخصية خيالية ومتخطيا حدود الحميمية الجسدية والعقلية في حوار عادل، إنها رواية السؤال عن سبب وجودنا مع بعضنا البعض، وما نحبه في بعضنا البعض، ولماذا نترك بعضنا البعض على أي حال، لذا فقد جمعت الرواية بين السيرة الذاتية والخيال. يكشف نيامتس في مدخله للرواية التي ترجمها د.خالد البلتاجي جانبا مهما من رؤيته، يقول "إن كنت قد قررت أن أتحدث في الأمر الآن فمن الصعب تحديد الأسباب التي دفعتني إلى الحديث، أظن أن أسئلة القلب تبقى بلا إجابة، وربما تتلاىشى، وتضيع مع الوقت، رأيتك جالسة ببعض القلق في المقعد الأبيض، أخذت كتابا من المكتبة، وفتحته عىل وشاح أزرق نييل يفصل بين صفحاته، اليأس الدائم يجلب السعادة في نهاية المطاف، الرجال الذين يعيشون في كنيسة القديس فرانسيس في فيسول وأمامهم أزهار حمراء قانية هم أنفسهم يحتفظون في صوامعهم بجمجمة يستقون منها تأملاتهم، فيما يتعلق بي، إن كنت أشعر أن تحولا يحدث في حياتي، فليس عائدا إلى ما حققته، بل إلى ما فقدته، هذا ما قرأته يومها في مذكرات ألبير كامي، اختلط الهواء المفعم بالكلمات بنسمة هواء ناعمة، وطار إلى الحديقة، تشرب فيها برائحة خضراء تفوح من العشب، تبين أننا قد تلقينا إجابة على سؤال غير سؤالك، الآن أعرف أنها كانت إجابة على سؤالي أنا الذي وجهته إليك مرارا، بعد عدة سنوات: لماذا هجرتني؟ لكنك فضلت الصمت، شعرت أن ما فعلته كان دونما سبب واضح، ربما لم يكن الأمر صدفة، وأن الأمور يجب أن تكون هكذا، ولا حاجة إلى قول المزيد؟. هذا كل ما في الأمر، أقولها لكم صراحة كي لا تتوترون بلا داع، ما يهمني هو أن أستدعي حكايتنا التي عشناها فحسب. وفقا للمترجم د.خالد البلتاجي يفضح نيامتس في الرواية نفسه بطريقة غير مسبوقة وهو يتفحص بداية ومنتصف ونهاية علاقة دامت ست سنوات - علاقته الخاصة. حيث تُظهر الرواية التي نشأت عن الحاجة إلى فهم الخطأ الذي حدث معه ومع صديقته، كيف يمكن أن يمتد موت العلاقة إلى ولادة رواية كنوع من التناسخ الأدبي الذي يحافظ على ذاته. يتم تعزيز طرق الكتابة عن الحب من خلال الحيل والأساليب السردية المختلفة، والإشارات إلى الأعمال النثرية الشهيرة، ومقتطفات من الرسائل والتقارير الإخبارية. هذه الرواية الحميمة والمثيرة للجدل بعض الشيء، حيث يندمج المؤلف والراوي والشخصية المركزية في واحد، يكسر جميع قواعد السرد، ويختبر الأشكال التي يمكن أن يتخذها النثر. الرواية التي صدرت ترجمتها عن دار الترجمان فيها الكثير من الشغف والدموع وقليل من الوحي، إنها رواية حول سبب وجودنا مع بعضنا البعض، وما نحبه في بعضنا البعض، ولماذا ما زلنا نترك بعضنا البعض.. أنها رواية تستكشف حقيقة الحياة وتجربة فريدة ورغبة في إيجاد المعنى. وعلى الرغم من أن كل شيء قيل على الأرجح عن الحب، إلا أن كل جيل يختبره بشكل مختلف قليلاً، إنها قصة اندلاع حب كبير بين يان/ الراوي ونينا. ولكن لأن المؤلف لديه أداة واحدة فقط، نشهد كيف يتم إنشاء رواية حب على أنقاض علاقة حب، لذا لا نرى رواية رومانسية، فالكاتب انطلاقا من التركيز على تحليل وتجسيد الشخصية الأنثوية للعمل وتصويرها باستخدام النظريات النسوية، يسلط الضوء على كل تجربة ونزاع من جهات مختلفة بما يخدم تغلغله في استكشاف وفهم هذا العالم الأنثوي والتأثيرات التي تفعل فعلها في رؤيته وأفكاره، ومن هنا جاء هذا الاتساع في الرواية لشبكة النصوص الأخرى، من الكوميديا الإلهية إلى إلى أخبار التابلويد سريعة الزوال والمقتطفات من كبار الروائيين، وردود فعلالصحف الشعبية على الأحداث، الأمر الذي لم ينعكس على عمق الرؤية والأفكار ولكن امتد للسرد والتقنيات الفنية. مقتطفات من الرواية سألتني نينا على الاسكايب: "كيف حالك؟" كيف حالي؟ كيف أجد نفسي؟ لا أستطيع الكتابة، وأشعر بضجر كبير، كتبت لراديو فلتافا برنامجا عن سيمون ويل، وألفت قصة قصيرة بشعة، أتابع كثيرا من الأفلام وكذلك الفيسبوك، وفي المساء أشاهد أفلام البورنو، أخبرتك من قبل أني أشاهد أفلام البورنو كلما ساء مزاجي، لذلك أشاهدها الآن كثيريا، لو عرفت لغضبت أو لهجرتني مباشرة، لذلك لن أخبرك بما أفعل، على أي حال أشعر أني أضيع وقتي أمام شاشة الحاسوب، ولا يهمني كثيرا ما أراه، في العام القادم سأبلغ الخامسة والثلاثين، أتعرفين هذا؟ وقتها تبلغ حياتي منتصف مدارها، ألن نلد أطفالا؟ أعرف أنك تكرهين هذا التحول، سنلد أطفالا، أم حتى هذا لن نفعله؟ هل سنفعلها كما فعلها سلفنا؟ أنا حتى عاجز عن إيجاد الفعل المناسب لاستخدمه، حتى دانتي كان رجًلا معتدا بنفسه، آمن بالحلول الفردية، إلى أن داهمته أزمة منتصف العمر، حلمت مؤخرا أن الحرب قد اندلعت، وأنيأطلقت النار على أحدهم كي أحميك، حسنا، في الواقع اعتدت الصمت، هل يمكن أن نتعانق لعشر دقائق في صمت؟ أترين، سمعت في الإذاعة أن الشعاب المرجانية تجاوزت مرحلة الكلام تقريبا، حتى طنين الأذن بلغ مرحلة خطيرة، أخبرتهم أني لا أتفق مع السياسة اليمينية للأصابع الوسطى المنتصبة، ولا سياسة القلق والافتراء اليسارية، وأن عليهم الحفاظ على نصيبهم من العقد الاجتماعي والاهتمام بالطقس، الحقيقة هي أن الآلهة المزيفة تمنعنا منذ الأزل من الوصول إلى الآلهة الحقيقية، أثناء الليل عندما تهب الرياح تصرصر الهوائيات على سطحالبيت وكأنها سدادات تنفلت من الزجاجات بلا توقف، ركبت مؤخرا ترولي في براتسلافا، ونسي أحدهم على مقعد بجواري حقيبة بلاستيكية بها سمكة طازجة، يدين الآخرون لنا بما نظن أنهم سيعطوننا إياه، هذا ما كتبه سيمون ويل، لذلك أنا أرى أننا لن نبرأ من هذه الديون أبدا، وسوف يرسلون من يحجز على ممتلكاتنا، أحلام الصبية في وادي السيليكون لم تكن دائما صبيانية، لذلك من العيب أن نجعل منهم جميعا مجرد زينة، كتبت أن كل غرامياتي كانت غراميات أولى، لكني اليوم لا أعتبرها كذلك، فأنت لست حبي الأول، أتمنى أن تفهمي ماأقصده، أم أنك كذلك، صحيح؟ بالتأكيد لابد أن تتذوقي فطائر اليقطين عندما تأتين إلى هنا.. رائعة، لقد سميتها يوما أزمة الاستسلام، يبدو الدانوب بسطحه المائج من الرياح وكأنه يتحرك في كلا الاتجاهين في نفس الوقت هل أنت متخيلة؟ بولكر سفينة نقل مخصصة لحمل المواد الرخوة، لا أشك فيك لكن هل خنتني؟ ألم تخونني يوما؟ أنا لم أخنك، كتبت لي أنكتمرين بفترة طارئة في حياتك، أعرف أنك تقصدين ترتيب أمور حياتك، في المرة القادمة لابد أن نذهب في رحلة إلى مدينة سنيشنا، اسم القصة القصيرة التي قرأتها عليكم في أولوموتس عنوانها "الدغناش الأوراسي“، أي عصافير الدغناش. "أنا لا أعرف كيف حالي". **** المشكلة التي ظهرت هي أين أردت العودة إلى برنو، بينما أرادت نينا الذهاب إلى براغ. المشكلة هي أننا تناقشنا ذات ليلة في المكان الذي سنعيش فيه، وفي الليلة التالية لم يحدث أي مما قررناه، ولم نعرف أصلا إن كانا سنبقى معا. استلقينا متجاورين عىل السرير، قالت نينا فجأة وسط الظلام: "أرى أنك في حاجة إلى تجربة مختلفة، لم تسعد بحياتك يوما، وتبحث عما يعوزك على الإنترنت، أنت قادر على تحقيق هذا على أرض الواقع، أليس كذلك؟ أشعر أني أقف عائقا في طريقك". استدرت ناحيتها، لكني لم أرها وسط الظلام: "لماذا أشعر وأنت تتحدثين على هذا النحو أنك تريدين إخباري بأني من يقف عائقا في طريقك؟". ـ "لا أعرف، لأني أتحدث عن نفسي، أنا بالفعل فكرت في هذا، وأرى أنك في حاجة إلى مزيد من الحرية". "أنا؟"، ملت عليها وسط الظلام وأضفت: ”أنا في حاجة إلى مزيد من الحرية؟ أم أنت؟ ”يا لك من جبانة! أتصفينني بما أنت عليه؟ أنا في حاجة إلى أمور أخرى تماما غير ملاحقة الفتيات، أما ما لست في حاجة إليه فهو أن تحدثيني بمثل هذه التفاهات، لماذا لا تخبريني مباشرة بما تريدينه؟". قالت قبل أن تستدير بظهرها كي لا أتنفس في وجهها: "أنا قادرة على إدارة شئون حياتي". أمسكت بكتفها، وأدرتها ناحيتي: "أنا أعرف أنك قادرة عليها". ثم أضفت بنغمة أشد هدوءا: "لكن هذا ليس موضوعنا، نحن نتحدث عن مستقبلنا، وأنت تجرينني إلى مسألة أخرى، وهي أين أبحث عن السعادة، لماذا في رأيك؟". ـ "ألا تفعل؟ لماذا إذن تشاهد ما تشاهده على الإنترنت؟". ـ "هل عدنا مرة أخر إلى نفس النقطة؟ ـ "لم نعد، أقصد شيئا آخر، أنت رجل ناجح، في أفضل سنوات عمرك، لماذا إذن تربط نفسك بي؟“. مددت يدي إلى سلك المصباح، وتحسست مفتاح الاشعال، ظللت نينا عينيها باستياء، فقلت لها: "كفى! يا نينا، ما معنى هذه الترهات". ـ "هل ترى أن كل ما أقول ترهات؟". ـ "ليس صحيحا، لكن كل جملة تقولينها هذا المساء هي كذلك". أجابت بهدوء: "أها، أرى أننا فعلنا كل ما بوسعنا" أدرت المصباح ناحية الحائط كي لا يبهر أعيننا، ثم قلت: ”هل حدث شيء لا أعرفه؟". قالت: ”لم يحدث أي شيء". ”حسنا، ماذا تريدين إذن؟". ـ "لا أعرف يا يان، أنت تريد أن تسكن في برنو، وأنا في براغ، لا أقول إن علينا أن نفترق، لكن ربما يفيدنا لو تحررت علاقتنا أكثر، أنا الآن لا أرغب في الإقامة فيبرنو على الإطلاق، ولافي الإنجاب، وأشعر أنك تود". ـ "الأمر إذن يتعلق بك، أليس كذلك؟ في المرة القادمة من فضلك ادخليفيالموضوع مباشرة دون التفاف". قالت بعد لحظات: "أرى أن الناس ليست مضطرة إلى البقاء العمر كله معا، ليس هذا هو المقصود من العلاقة، لا أعرف أحدا سعيدا بعد علاقة استمرت لعشرين عاما". في تلك اللحظة ذكرني هذا الحوار بحوار مماثل، بنفس الطريقة تحدثت نينا في أول أمسية لنا بعد قراءة ماجور الشعرية، عندما تعارفنا في برنو في فناء بيت سادة كونشتات، مر على هذا خمسة أعوام، لكن فجأة وكأن شيء لم يتغير، عادت تحدثني بأن العلاقات صالحة لفترة محددة، وأنها تشبه وسيلة انتقال، تحمل الانسان من محطة إلى أخرى. ـ "تريدين القول إن تاريخ صالحية عالقتنا قد انتهى؟" ـ "أنت الآن من يحيد عن الحوار، أنا لم أقل هذا أبدا" ـ " لماذا إذن تظنين أن الهدف من العلاقات بين الناس هو أن تجعلهم سعداء؟ ربما هذه هي مشكلتك". ـ "أليس كذلك". ـ "ليست كما تظنين؟". ـ "ربما كانت العلاقة هي المكان الذي تكونين فيه سعيدة طالما كنت سعيدة أو بائسة طالما كنت بائسة، أنا لا أعرف مشكلة حلت بالزواج، ربما المشاكل أكثر من هذا، لكن هذا ليس الهدف من العلاقة". سألتني نينا وهي تسرتسل: "أنا أرى أني كنت في حال أفضل وأنا وحدي، عرفت أن بعض الأمور تنقصني، ربما الحرية، وألا أضطر إلى مراجعة تصرفاتي باستمرار". - ”كنت في حال أفضل قبل أن نلتقي..". مددت يدي إلى مفتاح المصباح كي أطفئه هذه المرة، لم أرغب في رؤية نينا، وهي تحدق فيّ، المهم أنها كانت في حال أفضل قبل أن أظهر في حياتها، هذا يفسر الكثير.
مشاركة :