فى علم الدلالة والمعنى ثمة إشكالية كبيرة تعنى بها فلسفة اللغة، وهى إشكالية مفهوم المعنى. كيف يمكن اقتناص المعنى المراد فى الخطاب؟ هذا السؤال يجر إلى أسئلة عديدة: هل المعنى المقصود من أى خطاب هو ذات المعنى الذى يروم المتكلم إيصاله إلى القارئ أو السامع؟ أم أن المعنى هو ما تشى به مفردات الخطاب من دلالة بمعزل عما يقصده المتكلم على وجه الدقة واليقين فى خطابه. كأن اقتصد المتكلم فى انتقاء مفردات خطابه فاتسعت المساحة الدلالية بين ما يرمى إليه وما يكشف عنه خطابه؟ ويدق الأمر حينما تتعدد دلالات الخطاب بحكم اختلاف السياق التاريخى والثقافى والاجتماعى الذى تشكل فيه. كما يزداد الأمر تعقيدا حينما يتعلق الأمر بخطاب مضى عليه قرون طويلة، فتعين على من يطمح إلى إجلاء معناه أن يحاول بشق الأنفس استحضار السياق الذى ولد فيه الخطاب والبحث عن معانيه المحتملة خلال الفترة الزمنية التى نشأ فيها. لأن المعنى قد يتغير بمرور الزمن وتتخلق منه دلالات أخرى مجازية، بحيث يفقد معناه الأصلى بحكم التطور الحضارى والاجتماعى. خذ مثلا مفردة «رضخ أو رضوخ»، وهى تستعمل فى عصرنا بمعنى الخضوع والإذعان، على الرغم من أن الرضخ هو تهشيم الرأس!، فعبارة مثل «رضخ الولد رأس فلان بحجر»، معناها أنه هشم رأسه بحجر. ولا علاقة دلالية بين التهشيم والخضوع. لكن تداول الكلمة فى سياقات تاريخية واجتماعية مختلفة شحن حمولتها الدلالية بمعانٍ أخرى مثل: الخضوع والإذعان، بحيث كاد يتوارى معناها الأصلى وهو: الكسر والتهشيم. وحينما يتعلق الأمر بنصوص قانونية مثلا. فإن المشرع يوكل إلى القضاء مهمة شاقة هى تحديد معانى النص وفق قواعد معينة، حتى يمكنه تطبيقه على الوقائع المعروضة عليه تطبيقا صائبا. بيد أن المشكلة تكمن فى الواقع فى مفهوم «التطبيق الصائب». خذ مثلا كلمة «قذف» أو «سب» أو «إهانة». السؤال المثار هنا هو: ما الشروط اللغوية التى يجب أن تستوفيها أى كلمة كيما تعد شتما أو إهانة؟، لا مراء فى أن ثمة كلمات كثيرة لا يختلف حولها اثنان فى عدها كذلك، ولكن الاستئناس بالعرف الجارى وحده ليس بمعيار قاطع لأن ثمة ألفاظا عديدة يختلف الحكم حول حمولتها من العنف اللفظى بين شخص وآخر بسبب عوامل ثقافية واجتماعية لا حصر لها. ولا عجب أن نرى مؤتمرات دولية عديدة تضم اللغويين ورجال القانون معا تعقد باستمرار فى المحافل الأكاديمية لتعالج هذه الإشكالية بسبب صعوبة الارتكان على معيار «التقدير الشخصى» فى اكتناه معانى الألفاظ. ولو انتقلنا إلى الميدان الفقهى فإن الأمر يزداد تعقيدا لتعلقه بالنصوص المقدسة. لأن مفهوم «الوضوح القطعى للنص» مفهوم لا يخلو من الغموض. خذ مثلا نص آية المائدة 5 /38: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». لئن بدا هذا النص صريحا وقطعيا فإن الفقهاء اختلفوا فى شأن الحد اختلافات عديدة. لماذا؟ لأن ثمة مسائل كثيرة يثيرها مفهوم النص جمعها القرطبى فى كتابه «الجامع لأحكام القرآن» ومن بينها: «ماذا عن الاشتراك فى السرقة؟ وهل يكون غرم مع القطع؟ وهل تقطع يد من سرق المال ممن سرقه؟ وهل تقطع يده إذا كرر السرقة فى العين المسروقة؟» وهل هناك نصاب محدد للمال المسروق لقطع يد السارق؟. دفعت هذه المسائل الفقهاء إلى تأويل النص رغم صراحته وقطعيته، مستعينين فى ذلك بالأحاديث النبوية ومحاولة استحضار سياقه وافترقوا كثيرا فى تأويله. ومن ثم يثور التساؤل: ما هو المنهج المنطقى الذى ينبغى انتهاجه فى تأويل معانى الخطاب، خاصة أن الخطاب هو أشبه بكائن حى تتعدد وتتنامى دلالاته عبر التاريخ؟. يجيب عن ذلك ابن رشد فى كتابه «فصل المقال» فيقول: «نحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربى، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن».
مشاركة :