إذا ما أراد المفكر العربي اليوم تناول أي موضوع فإنه يواجه بأنه «عربي بين ثقافتين»؛ الموروث والوافد. ما يأتي من حضارته وما يأتي من حضارة الآخرين.. في حين أن الباحث الأوروبي لا يعيش هذه الأزمة، أي أزمة تعدد الثقافات والمصادر العملية، لأن الغرب هو المصدر الوحيد للعلم. لا تتنازعه ثقافتان، ولا يدين الغربي بالولاء إلا لثقافة واحدة، ولا ينشأ في وعيه تعارض بين الموروث والوافد بعد أن قطع مع الموروث اليوناني الروماني واليهودي المسيحي منذ عصر النهضة، وآثر أن يبدأ بالعقل في مواجهة الطبيعة لاكتشاف قوانينها منذ كبلر وجاليليو ونيوتن، وفي قلب المجتمع لوضع العقد الاجتماعي الذي يفسر نشأة السلطة في المجتمع. أما العربي فمازال يحمل على عاتقه همين؛ هم الموروث القديم، المصدر الأول للعلم الممتد منذ 14 قرناً، والذي مازال حياً في قلوب الناس وفي الوعي أو اللاوعي الفردي والجمعي.. وهمّ الوافد الحديث الذي بدأ يتراكم على هامش الشعور عند النخبة والجماهير على حد سواء منذ قرنين من الزمان. فإن لم يع هذه الازدواجية في الثقافة والمعرفة وآثر أن يشطر بينهما، لصالح الأول، كان سلفياً، أو لصالح الثاني أصبح علمانياً (أفنديا). وإن آثر الجمع بينهما فكيف؟ الموروث مرة، والوافد مرة، متجاورين في زمن واحد، أم تحقيق وحدة عضوية بينهما لصالح الموضوع نفسه وهو الهدف، والثقافتان مدخلان له ومصدران معرفيان لإنارته؟ وهذه هي الجبهة أو القاعدة التي يرتكز عليها عمودَا (الموروث والوافد) والقادرة على التحول من النص إلى الواقع، ومن المعلومات إلى العلم ومن النقل إلى الإبداع. ويحتار الباحث أي موروث يختار؟ إذ يتعدد الموروث بين التأويل العقلي عند المعتزلة وابن رشد وغيرهم. فقد أوّل المعتزلة آيات التشبيه دفاعاً عن التنزيه، وآيات القدرة إثباتاً للحرية الإنسانية، وآيات الإرادة حرصاً على قانون الاستحقاق، فالعقل أساس النقل. ووضع ابن رشد قانوناً للتأويل حتى يبعده عن الشطحات والنسبيات والأهواء وتقلب الأمزجة. ومارس الصوفية والتأويل بامتياز، أي إرجاع الشيء إلى أصله طبقاً للمعنى الاشتقاقي للفظ. ومارسه أيضاً علماء أصول الفقه حفاظاً على المصالح العامة، ووضعوا له القواعد الفقهية، وهي قواعد عامة تحفظ التأويل من الوقوع في المصالح الشخصية مثل «عدم جواز تكليف ما لا يطاق»، و«الضرورات تبيح المحظورات»، و«لا ضرر ولا ضرار»، و«درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، و«الأمور بمقاصدها»، و«الأعمال بالنيات»، وهو أيضاً علم «الأشباه والنظائر». وقد يعتمد الباحث على الوافد الغربي القديم اليوناني الروماني أو الوسيط الكنسي المدرسي أو الحديث والمعاصر، حتى أنه قد استأثر بالموضوع وحوّله إلى أحد علومه (الهرمنيطيقا)، ونظّر له أكثر مما مارسه عملياً، في حين أن الموروث مارسه عملياً أكثر مما نظّر له. فظن الناس أن الهرمنيطيقا علم غربي له أصوله اليونانية في «بيري هرمنياس» (أي مبحث العبارة)، وهو الكتاب الثاني من منطق أرسطو. لقد مارسه «فيلون» في الإسكندرية وأوغسطين في روما. وظهرت نظرية «المعاني الأربعة» للكتاب مسيطرةً على التأويل في العصر الوسيط المسيحي؛ المعنى الحرفي مقابل المعنى الروحي، أي الظاهر والباطن، الحقيقة والمجاز.. بلغة الموروث، ويشمل المعنى الأخلاقي والمعنى الصاعد والمعنى المجازي. وازدهر التأويل في العصر الحديث بعد اكتشاف الذاتية، حيث مارسه اسبينوزا وكانط في تفسير الكتاب المقدس، وخرج عند اسبينوزا من النقد التاريخي، وعند كانط من النقد العقلي، وأسسه شليرماخر نظرياً بأن أنزله من السماء إلى الأرض، من «الهرمنطيقا المقدسة» إلى «الهرمنطيقا الإنسانية»، من اكتشاف المعنى الإلهي إلى اكتشاف المعنى الإنساني. وحوله الرومانسيون إلى أداة لنسج الأسطورة، وإطلاق العنان للخيال بلا حدود. وفي الفلسفة المعاصرة ازدهر التأويل بعد اكتشاف النص حيث تشكل «علم النص»، ونظّر له «دلتاي» في أول دراسة معاصرة حوله («محاولة في التأويل»). وبعد تأسيس الفينومينولوجيا في أوائل القرن ازدهر علم التأويل لدى «مدرسة الأشكال الأدبية» عند بولتمان وديبليوس في أواخر عشرينات القرن الماضي، وأصبح جزءاً من تحليل الوجود الإنساني عند هيدجر، ثم تطبيقه في التجربة الجمالية عند جادمر، وفي «الأشكال الرمزية» للمعرفة عند كاسيرر، وفي «الأساطير الدينية» عند بول ريكير. فهل يحتاج المفكر إلى هذين «العكازين»، الموروث والوافد، حتى يساهم في التأويل، أم أنه يستطيع أن يستقل بنفسه ويتعامل مع موضوعه تعاملاً مباشراً، ويقوم بفعل التفلسف والاقتراب منه وعيشه ويحلله باعتباره قصداً في الشعور، ويعود إلى «أصل» التأويل في الشعور مادام التأويل هو الرجوع إلى الأصل «الأول»، ويعيد توظيف الموروث والوافد باعتبارهما رؤى في الموضوع. *أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة
مشاركة :