"مصيرنا معا" للكاتب والمترجم النمساوي إيريش هاكل، رواية حقيقة لبطولة نادرة تشكل أحداثها تكريما أدبيا لرجل كان موجودا بالفعل معنا حتى وقت قريب، إنه النمساوي راينهولد دوشكا، متسلق الجبال والحرفي المتحمس، هذا الرجل أقدم على انقاذ حياة امرأتين يهوديتين من الاضطهاد النازي، هما ريجينا شتاينج وابنتها لوسيا بإخفائهما في ورشته في فيينا بين عامي 1941 ـ 1945، وزودهما بالطعام واعتنى بهما دون أن ينطلق بكلمة واحدة عن شجاعته لا قبل ولا بعد عام 1945. وقد اجتهد الروائي طويلا في البحث والتدقيق وجمع المعلومات حوله، حيث أخبرته الابنة لوسيا نفسها عن ذكرياتها، كما أجرى مقابلات مع شهود عيان آخرين ولخص كل هذا في سرد فني تحليلي مثير للإعجاب ومتفوق ومحفز، ليقدم كشفا متكاملا وجديدا لمعاناة اليهود في فترة الحرب العالمية الثانية من الاضطهاد الوحشي للنازيين. ركزت الرواية التي ترجمتها شذى كيلاني وصدرت عن دار العربي على راينهولد دوشكا وريجينا شتاينغ ابنتها لوسيا، فـ "دوشكا" حرفي من برلين يأخذه شغفه بالجبال إلى فيينا، حيث لا يمكنه متابعة تسلق الجبال فحسب، بل ويلتقي أيضا مع مجموعة من الأصدقاء المهتمينبالأمور السياسية وانعكاساتها على الوضع الإنساني وأحداث الحرب الجارية ويناقشون ذلك على نطاق واسع. ومن المواضيع، وكانت حالة ريجينا شتاينج أحد محور هذه الدائرة النقاشية. ريجينا امرأة جذابة لها عشاق متغيرون وابنة تدعى لوسيا. بصفتها يهودية، تعرضت لعمليات انتقامية متزايدة، وفي عام 1941 وجدت المأوى في ورشة راينهولد، التي كان قد أعدها بعناية كمسكن طارئ. تعيش ريجينا ولوسيا هناك حتى ما قبل نهاية الحرب بقليل، خائفتين دائما من اكتشافهما أمرهما حيث كانتا دائمًا عرضة لخطر القبض عليهما، وعندما تم تدمير الورشة/ مسكن الطوارئ في إحدى الغارات الجوية، لم يتخل راينهولد عنهما وقام بأخذهما مؤقتًا إلى منزله الصيفي ثم إلى غرفة القبو لمتجر أحد الأصدقاء، بعد أن هربا بأعجوبة من حاجز للنازيين على الطريق. تحاول في النهاية "لوسيا" الحصول على تقدير لمجهودات "رينهولد" الشجاع، وتدرك رغبتها في مشاركة قصتها على نطاق واسع. تقضي لوسيا وريجينا الساعات الطويل في مساعدة "رينهولد" في عمله بالورشة، وفي الوقت نفسه تعيشان في خوف دائم من اكتشاف الجيران أو العملاء أو ساعي البريد لوجودهما. أما في عطلات الورشة نهاية الأسبوع فكانت تعد أسوأ الأوقات بالنسبة لهما، حيث لا يُسمح لهم بإحداث أي ضوضاء لتجنب اكتشافهما. هذا صعب، خاصة بالنسبة إلى لوسيا الفتاة الصغيرة، لذا كان راينهولد يخاطر أحيانا بإخراجها إلى الطبيعة لتركض ذهابًا وإيابًا لدقائق وقد تمكنت من التحرك بحرية لفترة قصيرة. راينهولد رجل قليل الكلام ينجذب إلى الجبال كلما كان لديه وقت فراغ. بصفته متسلقًا للجبال، فهو معتاد على قيادة الآخرين وتحمل المسؤولية عنهم. وقد كان إخفاءه لريجينا ولوسيا بالنسبة له شكل من أشكال المقاومة ضد النظام النازي الذي يكرهه، هو لم يقل كلمة واحدة عما فعل لأصدقائه أو عائلته. حفيده، الذي تحدثالمؤلف إليه يصف جده بأنه من قدم "مقاومة ذكية". بعد نهاية الحرب ذهب الجميع لمتابعة حياتهم مرة أخرى، لكنهم ظلوعلى تواصل. راينهولد لم يتفوه بكلمة واحدة عن عمله البطولي، حتى ابنته تكتشف في وقت متأخر ما فعله. في سن التسعين استسلم أخيرًا لعناد ابنته وباح ببعض ما عنده من تفاصيل، وقد توفي عن عمر يناهز 93 عامًا. ريجينا اليهودية الجذابة كانت تعمل كيميائية، وقد أقامت علاقة قصيرة معرودولف كراوز، كانت نتيجتها أنها أنجبت ابنتها لوسيا في عام 1929، ولم ترغب في الزواج من كراوز، لأنها اعتبرته غير صالح للزواج، لكنه ظل على اتصال بابنته طوال حياته. بعد الحرب تزوره لوسيا في موطنه الجديد في أستراليا، لكنها تدرك أنها لا تستطيع العيش هناك وتعود إلى النمسا، حيث تتزوج وتكوّن أسرة. بعد الحرب تزوجت ريجينا من عشيقها القديم فرتس هيلدبراندت، وهو رجل أيضا غير منضبوط أو واضح، ولم يفهم أحد ما رأته ريجينا فيه خاصة أنهاستمر في خيانتها حتى في منزل كبار السن. في فترة ما بعد الحرب كافحت ريجينا لسنوات للاحتفاظ بوظيفتها القديمة، والتي تم إخطارها بها لأنها يهودية. مقتطف من الرواية في عام 1937، انتقلت هي و"ريجينا" و"فرتس هيلدبراندت" أيضًا ـ لسوء حظ "لوسيا" ـ إلى السكن في شقة أكبر في الحي التاسع وعنوانها "بيرج جاسه" رقم 29، العمارة الخلفية، الطابق الرابع. ولقد صار لديهم الآن خادمة تطبخ لـ"لوسيا" عندما تعود في الظهر من المدرسة، أو ترافقها عندما يكون الطقس جميلًا إلى الملعب الذي يقع على بعد مبنى من منزلهم. تسببت الخادمة في مشكلة كبيرة عندما تركت الطفلة مرة تتسلق على عتبة النافذة استجابة لإلحاحها؛ كان من الممكن أن يصيبها مكروه بالرغم من أنها كانت تمسكها بإحكام. أما المشكلتان الثانية والثالثة فسببهما شك "ريجينا" الذي كان في محله في مغازلة "فرتس" الوسيم للخادمة من وراء ظهرها، وأيضًا في بدئه لعلاقة غرامية مع إحدى الجارات. كان هذا سببًا وجيهًا لتركه. فيما عدا المشكلات الثلاثة السابقة، لم يتغير شيء، كانوا يقومون بالتجوال في أيام الأحد في غابات فيينا، وبنزهات "دوشكا" و"كراوز" الجبلية، واللقاءات في مطبخ "ريجينا" أو لدى "راينهولد" في منطقة "فولفرزبرج"، وكذلك بالاطمئنان على الجد، وإحضار الطعام له، والتوسل إليه ليروي لها قصة. هذا بالإضافة إلى الأحاديث عن المصيبة الوشيكة التي خشيها الكبار ولم يُعرف مدى حجمها بعد. ناهيك عن قلق الأم وحركاتها العصبية وهي تسمع في الراديو المستشار "شوشنج" وهو يعلن عن التوقف عن العنف وتسليم حماية النمسا إلى كيان أكبر، وهو الأمر الذي لم تؤمن به. تضاربت مشاعر "لوسيا" ذات الثماني سنوات بين الإثارة والفزع. أرادت في يوم الثلاثاء التالي الركض إلى ساحة الأبطال "هيلدِن بلاتس"، لأن الجميع ركض إلى هناك، ولكنها ظلت واقفة وسط الزحمة. يعيش، يعيش، يعيش.. شعرت أنها وعائلتها استُبعدوا من الخلاص المنتظر. فزعت من الجموع الصائحة في الشارع وعادت مضطربة إلى المنزل. أرادت في العاشر من نوفمبر أيضًا الذهاب إلى موقع الحدث بعدما سمعت بنبأ احتراق معبد "مولنر جاسه"، إلا أن أمها حالت دون ذلك عند الباب. أُقيلت "ريجينا" من عملها لدى بلدية فيينا في الرابع عشر من مارس عام 1938، ولكنها أُلزمت بتدريب خليفتها التي تدلى الصليب المعقوف المطلي بالفضة فوق صدرها لمدة أسبوعين مجانًا. لم تحضر الخادمة في هذا اليوم لأنه لم يُسمح بتحميلها فوق طاقتها في جعلها تعمل في منزل يهودي. استأجر "فرتس" على إثر ذلك غرفة من الباطن خوفًا من أن يُبلغ عنه بتهمة إهانة العرق. طُردت "لوسيا" في منتصف شهر مايو من المدرسة الشعبية في شارع "جرونينتور جاسه"، وأودعت في مدرسة للأطفال اليهود في شارع "بورزه جاسه". توجهت برفقة صديقاتها إلى الملعب بعد المدرسة التي لم تتعلم فيها شيئًا نظرًا لاكتظاظ الفصل ونقص المعلمين المؤهلين. كم تعجبت للسرعة التي كُتبت بها الافتات التحذيرية على كل مقاعد الحدائق "للآريين فقط"، وذلك بشكل منظم وباستخدام المرسامات. اضطرت الفتيات إلى الاستعاضة بالملعب عن بالشارع، إلا أنهن توخين الحذر دائمًا في أثناء لعب الحجلة أو نط الحبل لئلا يقوم المراهقون بالبصق عليهن أو شد شعورهن. طُرد "يوزف ترايستر" أخيرًا في الصيف من الشقة في شارع "بابنهايم جاسه". آوته ابنته عندها. لم يكن لديه أحد غيرها. هاجر "آرنولد" الصيدلاني في تلك الأثناء برفقة زوجته وطفله إلى "باريس". تسنى له الوقت قبل ذلك لبيع مقتنيات منزله. أراد إعطاء عربة لعبة أطفال ابنته "ريناتا" الفاخرة لـ"لوسيا" كهدية وداع، ولكن لسوء حظها رفضت "ريجينا" ذلك. وهذه آخر ذكرى لـ"لوسيا" مع جدها: دق جرس باب شقتهم بلا توقف عشية التاسع من سبتمبر عام 1939، أي بعد أسبوع على الغارة التي شنها الألمان على بولندا. سأل رجال يرتدون الأحذية الطويلة عن "يوزف ترايستر"، وأمروه بالذهاب معهم. وَضَّبَ حقيبة صغيرة، وارتدى معطفه الشتوي الثقيل. أُغلق الباب وراءه. ركضت إلى النافذة، ورأته وهو يمشي في الفجر عبر الفناء بين الرجال عريضي المناكب. كان ضئيل الحجم ومنحني القامة، ومشى بخطوات بطيئة حتى اختفى في رواق العمارة الأمامية. أُودع هو والآلاف غيره من الرجال الذين اعتبرتهم السلطات النازية يهودًا من أصل بولندي بلا جنسية في استاد فيينا. وقفت "ريجينا" برفقة "لوسيا" بعد ثلاثة أو أربعة أيام في طابور طويل أمامه لإحضار ملابس داخلية نظيفة وثياب دافئة له. مُنع الناس من الكلام، ضُرب من لم يلتزم بذلك بالهراوات على أيدي أفراد عسكريين. اضطرت "لوسيا" إلى رؤية ذلك يحصل لأمها لأنها تحدثت همسًا مع المرأة الواقفة أمامهما، وأيقنت حينها أن الصراخ أو البكاء سيزيدان الطين بلة فحسب. عندما أرادتا إحضار الملابس مرة أخرى للجد في الأسبوع التالي كان قد نُقل إلى مكان آخر. وصلتهما بعد مرور شهر برقية من معسكر اعتقال "بوخنفالد" مرفقة بشهادة وفاته دون ذكر لسبب الوفاة: توفي اليوم "يوزف ترايستر" من مواليد السادس عشر من مارس عام 1873، وسيتم حرق جثمانه بتاريخ السادس والعشرين من أكتوبر عام 1939 في محرقة مدينة "فايمار". يمكن تقديم طلب للحصول على الرماد على النفقة الشخصية خلال أربع وعشرين ساعة لدى إدارة المدافن في مدينة "فايمار". قائد معتقل "بوخنفالد".
مشاركة :