التقليديون وحدهم هم الذين يَجمعون في عقولهم اللامتعقّلة أوضحَ المتناقضات المستحيلة؛ دون أن يُلاحظوا التناقض المستحيل الذي يستعمر جماجمهم، بل ربما دون أن يهتموا بملاحظة هذا التناقض يستحيل أن تتقدم المجتمعات/ الدول - تقدما حقيقيا - دون متغيرات جذرية/ نوعية تشتغل على نظام الوعي، ومن ثم على نظام الواقع؛ فتنقل هذا وذاك – في مسيرة جدلية عميقة – من حال إلى حال. كل المجتمعات، وأيا كانت طبيعتها من ناحية التقدم والتخلف، تتجسّد على أرض الواقع بوصفها انعكاسا لعالم الوعي الذي يتغذّى من جدلية الفكر الخالص، ومن جدلية علاقة الفكر مع الواقع الذي يعكسه. وأيضا، إن شئت – وفق رؤية ماركسية – فالعكس صحيح؛ حيث عالم الوعي يتجلى كانعكاس لعالم الواقع؛ وفق الأولوية التي تُحدد المبدأ النظري. المهم من كل هذا، أن جدلية المتغير الواقعي مع المتغير الفكري هي – في علائقها التشارطية - حقيقة يُقرّ بها الجميع، وليست محل جدال. التقليديون وحدهم هم الذين يَجمعون في عقولهم اللامتعقّلة أوضحَ المتناقضات المستحيلة؛ دون أن يُلاحظوا التناقض المستحيل الذي يستعمر جماجمهم، بل ربما دون أن يهتموا بملاحظة هذا التناقض. هؤلاء السطحيون يريدون أن يجمعوا بين الرفاهية التي يمنحها التقدم الإنساني الذي تحقق في القرون المتأخرة، وفي الوقت نفسه، يريدون الاحتفاظ - اغتباطا - بنمط التفكير/ الوعي التقليدي، المتعارض – نسقيا - مع شرط الوعي التقدمي. ومثلهم – بالنظر إلى الاستحقاق النهائي – أولئك المُتَنَفّعون بالأوضاع القارّة الرتيبة التي تُجمّد المجتمعات عند لحظة تاريخية ما. فهؤلاء وأولئك يجهلون بحق، أو يتجاهلون؛ إذ يُغْمِضون أعينهم وعقولهم - عامدين - عن التغيير؛ كشرط للتطوير، التطوير الذي يتفق عليه الجميعُ، و- في الوقت نفسه – يختلف على سبل الوصولِ الجميعُ. دائما ينظر التقليديون إلى التجاذبات الثقافية والمجتمعية من منظور سلبي، ليس انحيازا مصلحيا إلى مكتسبات الواقع التي يخافون عليها من الزوال بتغيير المجتمع لطرائق تفكيره فحسب؛ وإنما أيضا نتيجة الصدور عن رؤية سطحية ساذجة تربط الاستقرار المجتمعي إما بالتوافق التطابقي بين مكونات المجتمع الفكرية والدينية والاقتصادية، وإما بالاستقرار المرتبط بالإكراه العام. وطبعا، هذا الوهم لا يستقر في أذهانهم إلا لكونهم لا يُفرّقون بين الاستقرار السلبي، والاستقرار الإيجابي، بين الاستقرار الجمودي الذي يشبه سكون الأموات وسلام الأموات وتشابه الأموات، والاستقرار الحيوي الفعال الزاخر بكل صور التفاعلات الصراعية، والمنضبط – في الوقت نفسه - بقوانين تحكم خروجه عن مساراته النظرية، والذي هو حقا الاستقرار الخصب الذي يوفر البيئة الصالحة للنمو الإنساني متعدد الأبعاد. إن المجتمعات التقليدية بطبيعتها مجتمعات ساكنة، وتقليديتها أتت من سكونها، كما أن سكونها هو تمظهر عملي لتقليدية وعيها، ولهذا، تخاف من الاختلاف، كما تتوجس من المغاير والمختلف والمتفرد، وترتعب من الصراعات الفكرية، تلك الصراعات التي لا تنظر إليها كطاقة حيوية تدفع بالمجتمع في اتجاه الاستعراض القسري لخياراته الممكنة، لخياراته الكامنة في رحم الأفكار المتناسلة من العصف الذهني لكل مكونات المجتمع، وإنما تنظر إليها بوصفها عبثا وتخريبا وتمزيقا للسكون المعتاد الذي اطمأنت إليه، ورأت في حدوده الدنيا الحدود القصوى للمتاح. يشير علماء النفس إلى أن القلق ليس حالة سلبية في كل الأحوال، بل هو ضروري في كثير من الأحيان لتحقيق الإنجاز، والإنجاز النوعي على نحو خاص. وكل من راقب التطورات الإيجابية على مستوى الأفراد والتطورات الإيجابية على مستوى المجتمعات، تأكد لديه أنه لا إنجاز بلا توتر وقلق، بلا خلاف وصراع، الفرد مع نفسه ومع الآخر، والمجتمعات مع أنفسها ومع مثيلاتها. وحدها المجتمعات التي تتمتع بحيوية القلق الإيجابي هي المجتمعات التي تظهر في طور النمو وكأن مكوناتها في حالة صراع مع بعضها البعض. في المقابل، المجتمعات المطمئنة هي بالفعل مجتمعات غير قلقة، وبالتالي، يخفت فيها صوت الحوار بين الأضداد، وفي النهاية تدخل في طمأنينة الجمود. إن هذه الحضارة الغربية/ الأوروبية التي يتفيأ العالم ظلالها اليوم، لم تخرج للوجود من بيئة يسودها الجمود والتوافق والتطابق، وإنما خرجت - يوم خرجت – في اللحظة التي بدأت فيها أوروبا تنفض عنها غبار الجمود والتوافق الشكلي، بل يوم بدأ الإصلاح البروتستانتي يُفتّت الرؤى الجامعة/ الكاثوليكية التي كانت تفرض الرأي الأوحد على الجميع. بدأت أوروبا مشروعها الحضاري النوعي يوم بدأ قلقها الفكري يستبد بها، يوم بدأت تقلق وتتوتر، بل وتتصارع فكريا بشأن حاضرها ومستقبلها، بل وبشأن ماضيها. بدأت أوروبا عصورها المبهرة، يوم بدأ بعضها يقرأ بعضها بعنف، يوم بدأت تعي حقيقة أن الاختلاف والتنوع ثراء إنساني طبيعي، وليس مصيبة يجب التخلص منها في أقرب منعطف من منعطفات الهروب من الواقع. لا شيء أسوأ من الجمود ذاته؛ إلا دعوة (بعض حملة الأقلام ممن يمسك الأقلام من أنفاسها) إلى فرض الجمود بالقوة، وإنهاء الجدليات الفكرية بقرار. هذا التصور البائس هو الأسوأ؛ لأن الجدليات الفكرية – مهما بلغت حِدّتها؛ ما دامت لا تخرج عن إطار الإقرار بحاكمية الأنظمة والقوانين – هي التمظهر الواقعي الحي لحرية التعبير في أبسط وأوضح صورها. ومنطقيا، لا حرية تفكير بلا حرية تعبير، وحين تموت حرية التعبير موتا طبيعيا أو بخنق؛ يموت التفكير، وتنتهي المجتمعات إلى حالة مَوات. حين يكون الصراع الفكري يشتغل على عالم الأفكار، وعلى عالم القوانين المنظمة للمجتمع (مع الإقرار بسيادة هذه القوانين وحاكميتها حتى في لحظة مناقشتها)؛ يكون صراعا فكريا تطوريا إيجابيا؛ مهما بدا حادا وصارخا، بل واستئصاليا في بعض مناحيه، حيث تبقى عوارض أمراض يمكن الالتفات لها ومعالجتها؛ وفقا لشروط السياق الفكري والمجتمعي. لا بد من التأكيد على أن الفكر الذي يناقش الأنظمة والقوانين، ليس هو الفكر الذي يدعو للخروج على الأنظمة والقوانين، بل هو الفكر الذي يؤكد عليها ابتداء. هناك فرق بين مناقشة قانون أو نظام ما، وبين الخروج/ التمرد عليه. فمثلا، عندما تناقش (نظام ساهر) المروري، أو تطالب بإلغائه، لا يعني أنك تتمرد عليه في اللحظة التي تناقشه فيها، بل أنت أصلا لا تناقشه أو تعترض عليه؛ إلا لأنك ترى أنه ما دام مسطورا في أنظمة المرور، فهو مشروع، ويجب الالتزام به، أي أنك تلتزم به؛ ما لم يتغير نظاماً. ولهذا، تطالب بتغييره عبر وسائل التغيير المشروعة؛ حتى تتحلل من ذلك الالتزام التي ترى فيه ضررا فرديا أو مجتمعيا، أو على العكس، تطالب بتثبيته أو تعميمه؛ لأنك ترى فيه إيجابية ما، يستحق بسببها التثبيت والتعميم. وقس على ذلك كل الأنظمة والقوانين والمؤسسات والهيئات التي تخضع للجدل المجتمعي على مستوى المناقشات الفكرية، فاحترامها كأنظمة وقوانين شيء، ومناقشتها والمطالبة بتغييرها أو إلغائها شيء آخر. إن المتمرد عليها واقعيا لا يعترف بها أصلا، ولهذا، فهو لا يناقشها من الأساس. إذن، الحوار ولو بلغ حد الصراع الفكري، ليس خروجا على النظام الاجتماعي، بل اشتغال عليه. عندما يحتدم النقاش على مستوى التجاذبات الفكرية؛ مع وجود قانون عام يحكم الجميع، ويردع التجاوزات المجرمة نظاما، فهذا يعني أن الصراع يدور بالشكل الإيجابي، ويحفظ تماسك وحدة المجتمع، بل ويعني هذا أن المجتمع يتنفس بشكل طبيعي، وأن كثيرا من الاحتقانات التي تطفو على السطح تخفف من حدة التوترات السلبية الكامنة في العمق، والتي من الممكن – فيما لو كُتمت – أن تدخل في متواليات سلبية، تنتهي بتكوين بؤر انعزالية تؤسس لخطابات رافضة للمجتمع ككل، سواء تم ذلك بتكفير ديني صريح، أو بأيديولوجيا غير دينية تؤسس لمواقف رفضيّة راديكالية، تنتهي إلى المربع الذي يقف فيه خطاب التكفير. أخيرا، إذا أقررنا أن الاختلاف والتنوع، بل والحوار التجاذبي الاستقطابي الصراعي، يكشف عن صحة مجتمعية؛ ما دام يدور داخل إطار الأنظمة المجتمعية الحاكمة، فإن المناداة بكبته استنادا إلى ظروف التحديات التي نواجهها، تصبح عبثا إن أحسنا الظن، وخداعا أيديولوجيا/ حركيا إن أسأنا الظن؛ لأن المجتمع الذي يواجه التحديات المصيرية يحتاج إلى أن يكون بكامل لياقته الفكرية والاجتماعية؛ ليستطيع توفير مقومات التحدي: تحدي المواجهة. من أجل الاستقرار، يحتاج المجتمع لأن يعرف بعضه بعضا، ولو بمواجهة بعضه لبعض على مستوى تصادم الرؤى والأفكار والمقترحات والمشروعات. يحتاج المجتمع في الظروف الحرجة، أكثر من غيرها، لأن يتحدث الجميع بوضوح عن آمالهم وتطلعاتهم وإحباطاتهم، عن ولاءاتهم الثانوية التي تقف على أرضية الولاء الوطني ولا تتجاوزه، وأن يُفصحوا عن رضاهم وعن غضبهم، لا أن ينسحبوا إلى دهاليز السرية والغضب المكتوم؛ فيصبح المجتمع مجموعة طلاسم غير قابلة للقراءة إلا على سبيل الكهانة والتنجيم. ma573573@hotmail.com
مشاركة :