الأرشفة.. توثيق للذاكرة الفكرية والثقافية - حمد سعد المالك

  • 6/21/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

الوثائق والسجلات التي تحمل ذكريات وشهادات الأمم والشعوب هي جزء لا يتجزأ من تراثها الثقافي والحضاري. فهي تعكس تاريخها وهويتها وتسجل إنجازاتها وتحدياتها، وتمثل مصدراً ثرياً للمعرفة والبحث والتعلم. والمحافظة على هذه الوثائق والسجلات وإتاحتها للجمهور هو مسؤولية مشتركة بين الحكومات ومجتمعاتها. ففي التاسع من شهر يونيو من كل عام تأتي الأرشفة بيومها العالمي كفرصة للاحتفاء بدور المؤسسات الأرشيفية في حمل هذه المسؤولية وتعزيز التعاون بينها على المستوى الدولي والدعوة لزيادة الوعي بأهمية الأرشيف في خدمة التنمية المستدامة. اليوم العالمي للأرشيف، أقره المجلس الدولي للأرشيف الذي تأسس بدعم من اليونسكو، المنظمة الأممية المعنية بالتربية والعلوم والثقافة لتشجيع التعاون العالمي بين المؤسسات الأرشيفية وتحسين ممارساتها ونشر ثقافة تسجيل الوثائق بين كافة فئات المجتمع، وزيادة الوعي بأهمية الحفاظ على الوثائق والسجلات والتعامل معها بطريقة سليمة، وإبراز القيمة المضافة التي تمثلها لصناع القرار في دول العالم في مجالات تعزيز الهوية الوطنية والانتماء والحوكمة والتطوير للدولة وقطاعاتها. استخدام التقنية الحديثة في الأرشفة: معظم الجهات المختصة في مجال الأرشفة أصبحت تستخدم التقنية الحديثة والتي تعتمد على أساليب وأدوات وبرامج تساعد على تحويل الوثائق الأرشيفية من شكلها الورقي أو المادي إلى شكل رقمي يمكن حفظه واسترجاعه ومشاركته بسهولة وأمان. ويرجع إقبالهم الكبير على استخدام التقنية الحديثة في مجال الأرشفة لإيقانهم أنها تساعد في المحافظة على التراث الفكري من التلف أو الضياع أو التزوير، وتحسين جودة ودقة ووضوح الوثائق التاريخية، وتسهيل الوصول إليها والبحث فيها والاستفادة منها، وتوفير المساحة والتكلفة والوقت المطلوب لإدارة وتخزين الوثائق الأرشيفية، وتعزيز التعاون والتبادل بين المؤسسات الأرشيفية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي. وهناك العديد من المشروعات العالمية الرائدة في مجال رقمنة الوثائق والسجلات التاريخية كمشروع «المكتبة الرقمية العالمية» (World Digital Library)، وهو مشروع تعاوني بين مكتبة الكونغرس الأمريكية ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) والمكتبات والأرشيف والمؤسسات التعليمية والثقافية الشريكة بين الولايات المتحدة ومختلف أنحاء العالم. يسعى المشروع إلى جمع الوثائق النادرة والفريدة -كالكتب والدوريات والمخطوطات والخرائط والصور والأفلام والتسجيلات الصوتية - التي تروي قصة ثقافات العالم على موقع إلكتروني واحد. يستهدف الموقع المستخدمين العامين والطلاب والمعلمين والباحثين. تعمل واجهة المكتبة الرقمية العالمية بسبع لغات: العربية والصينية والإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والروسية والإسبانية. ويأتي «أوروبيانا» (Europeana)، المشروع الرقمي الموحد للتراث الثقافي والعلمي لأوروبا، بما في ذلك الكتب والصور والأفلام والصوتيات والأرشيف، ويذكر موقع «يوروبيانا» أن المشروع يوفر لعشاق التراث الثقافي والباحثين والمهتمين إمكانية الوصول إلى التراث الثقافي الأوروبي. وحسب إحصائية الموقع يصل عدد الصور التاريخية المتوفرة فيه أكثر من 31 مليون صورة وأكثر من 300 ألف مادة مرئية وما يقرب من 600 ألف مادة صوتية والتي جمعت من أكثر من 4000 مؤسسة أوروبية تعنى بالتراث الثقافي. «أرشيف الإنترنت» (Internet Archive)، المشروع الذي يشتمل على نسخ رقمية للمواد المختلفة التي تنشر على شبكة الإنترنت أو في وسائط أخرى، بما في ذلك المواقع والبرامج والكتب والصحف والأفلام والبرامج التلفزيونية. فهو مكتبة رقمية غير ربحية تأسست في 10 مايو 1996، ويحتوي على أكثر من 20 مليون كتاب ونص قابل للتنزيل مجانًا، بالإضافة إلى 2.3 مليون كتاب إلكتروني. كما يشهد الوطن العربي مشاريع رقمنة عربية قيمة في مجال الأرشفة كمشروع «الذخيرة العربية»، الذي يهدف إلى إنشاء بنك آلي من النصوص القديمة والحديثة باللغة العربية في شتى المجالات، ووضع قاعدة بيانات معجمية سهلة التداول. وكما ذكرت صحيفة العربية الإلكترونية أن المشروع عبارة عن:»مدوَّنة كبيرة تشمل كل ما دُوِّن باللغة العربية في شتى المجالات (قديماً وحديثاً)»، ومشروع «أرشيف الشارخ للمجلات الأدبية والثقافية العربية»، الذي يضم مجلات من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مرفوعة على الإنترنت من مجموعة متنوعة من المناطق الجغرافية في الوطن العربي. يضم الموقع ما يقرب من 264 مجلة وأكثر من 15000 عدد، و»المجموعات العربية على الإنترنت»، مشروع لرقمنة وحفظ وتوفير الولوج المفتوح لمجموعة واسعة من كتب في اللغة العربية في مواضيع الأدب والفلسفة والقانون والدين وغيرها، بالتعاون بين جامعة نيويورك ومؤسسات أخرى، ومشروع «باحث أرشيف الإنترنت»، الذي يسعى إلى توفير فهرس بحث في النص الكامل لأكثر من 25 مليون مقال بحثي ووثائق علمية أخرى محفوظة في أرشيف الإنترنت، بما في ذلك المجلات والمؤتمرات والمطبوعات المسبقة. الأرشفة في السعودية: مبادرات وإنجازات تولي السعودية اهتماماً كبيراً بالأرشفة والموروث الرقمي كأداة لحفظ الإنتاج الفكري والثقافي للأجيال الحالية والمستقبلية. وتشهد السعودية في السنوات الأخيرة نشاطاً متزايداً في مجال الأرشفة، سواءً على المستوى المؤسسي أو المجتمعي، وتؤكد حرصها على المحافظة على ذاكرتها التاريخية والثقافية، وعلى المساهمة في إيصال معرفتها وثقافتها للعالم، وعلى تحقيق رؤيتها 2030 الساعية إلى تطوير هذا المجال للمحافظة على تراثها وثقافتها وهويتها. ولتحقيق هذا الهدف، أنشأت السعودية عدة مراكز ومشاريع للأرشفة وحفظ التراث الثقافي، منها: - «المركز الوطني للوثائق والمحفوظات»، المركز الرئيسي للأرشيف في السعودية، وهو المسؤول عن حفظ وإدارة السجلات الرسمية في المملكة، ويهدف إلى حفظ وتوثيق وإتاحة الوثائق والمحفوظات الوطنية، وإجراء البحوث والدراسات المتعلقة بتاريخ المملكة العربية السعودية وجزيرة العرب. تأسس المركز في عام 1989م بموجب نظامه الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/55)، ويرتبط إدارياً برئيس الديوان الملكي. يقع مقره في مدينة الرياض، ويضم عدة خدمات إلكترونية للجهات الحكومية والأفراد. كما يشرف المركز على نشر الأنظمة واللوائح والاتفاقيات والمعاهدات السعودية، وتصنيف وترميز الأجهزة الحكومية. - «مركز تاريخ البحر الأحمر وغربي المملكة العربية السعودية»، يعتبر من مشاريع الأرشفة التي تعنى بالإرث الفكري والحضاري لمنطقة البحر الأحمر وغرب المملكة من خلال التوثيق والدراسة والترجمة والنشر. يقع المركز في مدينة جدة ويتبع لدارة الملك عبدالعزيز. يقوم المركز بدعم الدراسات والبحوث الخاصة بتاريخ المنطقة، والتواصل مع مراكز الأبحاث والدراسات العلمية، وإقامة شراكات مع قطاعات حكومية وأهلية، والتعاون مع المتاحف والفعاليات التراثية، وبناء قاعدة معلومات شاملة، وإصدار سلسلة دراسات تاريخ البحر الأحمر وغرب المملكة، وتنظيم لقاءات وندوات وحلقات نقاش ومعارض علمية متخصصة، ومنح جائزة سنوية باسم (جائزة الأمير سلمان)، وخدمة الباحثين والمهتمين في مجال اختصاص المركز. - «الأرشيف الوطني للصور التاريخية»، مشروع ثقافي وتاريخي يهدف إلى جمع وحفظ وعرض الصور القديمة التي تعكس تاريخ المملكة العربية السعودية وملوكها وشخصياتها البارزة ومناطقها. يضم الأرشيف أكثر من 90 ألف صورة تم جمعها من نحو 90 مصدراً داخلياً وخارجياً، وتستخدم التقنيات الحديثة في معالجتها وتسهيل الوصول إليها عبر نظام آلي متطور. أَنشئ المشروع بمبادرة من مؤسسة التراث الخيرية، حيث تقدمت بطلب إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- (الذي كان في ذلك الوقت أميراً للرياض، ومشرفاً عاماً على مكتبة الملك فهد الوطنية، ورئيساً للجنة العليا للاحتفال بمئوية تأسيس المملكة) لإنشاء «الأرشيف الوطني للصور التاريخية» في مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض وذلك عام 1417ه‍ (1997م)؛ ليصبح مصدراً متخصصاً ومتميزاً في التاريخ السعودي، يحفظ ذاكرة الماضي وأبعاده الثقافية والتعليمية، ويكون مرجعاً موثقاً للباحثين والدارسين والمهتمين بتاريخ المملكة. - «المركز السعودي للمحتوى الرقمي (رقمن)»، مركز متخصص في تقديم خدمات الرقمنة والحفظ الرقمي وإتاحة الوصول وإثراء المحتوى الرقمي للتاريخ والثقافة السعودية والعربية والإسلامية، ويرتبط إدارياً بالأمانة العامة لدارة الملك عبدالعزيز، ويضم عدة مختبرات وورش عمل مجهزة بأحدث التقنيات في مجال الرقمنة. وتركز رؤية المركز إلى أن يكون المرجعية العلمية والتقنية الوطنية، والجهة الرائدة في تقديم خدمات الرقمنة والحفظ الرقمي وإتاحة الوصول، وكذلك إثراء العمليات التي تلي الرقمنة. ويستهدف كافة القطاعات الحكومية وشبه الحكومية والخاصة، بالإضافة إلى المؤسسات والجهات التعليمية والعلمية والبحثية، ومراكز الحفظ الوثائقي والأرشيفي المستقلة أو التابعة. كما يقوم بتقديم دورات تدريبية وتثقيفية وتوعوية في مجالات حفظ وإثراء المحتوى الرقمي. - «توثيق الإنتاج الفكري الوطني إلكترونياً (مصدر)»، مشروع تقدمه مكتبة الملك فهد الوطنية عبر موقعها الإلكتروني بالتعاون مع مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، يهدف إلى توثيق وحفظ وتنظيم وإتاحة المحتوى الفكري الوطني في مجالات العلوم والتقنية بنصوصه الكاملة عبر الإنترنت، لعموم الباحثين والمستفيدين مجاناً دون أي قيود، لدعم الجهود التعليمية والبحثية في المجتمع. يستخدم المشروع نظاما متكاملا يساعد على فهرسة وبث المحتوى الفكري الوطني، ويضم المشروع أكثر من 90 ألف سجل فكري، منها رسائل علمية، وأبحاث مؤتمرات، وأوراق عمل، وتقارير بحثية، وغيرها. يستفيد من المشروع كافة القطاعات الحكومية وشبه الحكومية والخاصة، بالإضافة إلى المؤسسات والجهات التعليمية والعلمية والبحثية والطلاب والباحثين والأكاديميين والجمهور العام. ختاماً، الأرشفة جزء هام في الحفاظ على موروثنا الثقافي والمعرفي، فهي تجعلنا نحصل على سجل لتاريخنا وثقافتنا ومورد قيم للباحثين والطلاب وكل من يهتم بالتعرف على حضارات وثقافات الشعوب المختلفة. لذا علينا أن نقوم بواجبنا في دعم الأرشفة من خلال زيادة الوعي حول الدور الذي تلعبه الأرشفة والحفظ الرقمي في دعم النمو المعرفي للمجتمعات وتبرع أفراد ومؤسسات المجتمع بالمواد النادرة والتاريخية لمراكز الأرشفة المختلفة لضمان الحفاظ على تاريخنا وتراثنا للأجيال القادمة.

مشاركة :