لست من يقيِّمون قلم الأديب الراحل محمد صادق دياب، هذا شيء متروك لأدباء ومفكرين المملكة التي تذخر بكتاب مبدعين في شتى صنوف الأدب شعراً ونثراً قصة قصيرة ورواية، لا يسع المجال لذكرهم وما أنا إلا قارئ متابع لقلم الراحل من أيام كان مشرفًا على الملحق الثقافي الذي كان يصدر صباح كل يوم أربعاء في جريدة المدينة، من يومها عشقت قلم محمد صادق دياب -رحمه الله-، وبعد أعوام من مغادرتي المملكة إلى السودان جئت معتمراً وقتها كان -رحمه الله- في مقر صحيفة الشرق الأوسط حيث كان مشرفاً على نسخة السعودية من مجلة سيدتي، أهداني مشكوراً مجموعه من مؤلفاته، ساعة الحائط تدق مرتين، الأمثال العامية، فنونهم وجنونهم، والآن مشكورة السيدة حرمه أهدتني آخر إصدارته حكايات من الحارة، السفر النفيس، جدة التاريخ والحياة الاجتماعية، عندما أتناول شيئًا من مؤلفاته تسترجع الذاكرة قنديل أم هاشم للأديب يحيى حقي وثلاثية نجيب محفوظ وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، وكل عمالقة الأدب الذين تغلغلوا في أعماق النفس البشرية واجتهدوا في استنطاق القوة الداخلية الكامنة في النفس أمثال: توليستوي، وجوركي، والبيركامي، وابسين، وأسكار وايلد. محمد صادق دياب يتنقل بين الأزقة وبصره شاخص على الرواشين، يرسم أبطال قصصه بريشة فنان لتتجسد اللوحة صوتًا وصورة لنقل عبقرية المكان والزمان، أسطر هذه المقالة وأنا في حارة اليمن، شدني الوصف البليغ للحارة وجزى الله المسؤولين القائمين على أمر إعادة وترميم كل شيء، وهنا أيضاً تجسدت عبقرية المكان وخير دليل على ذلك الحرص أن يكون المكان فعلاً منطقة أثرية، كل شيء في مكانه يحكي للسواح إبداع صناع ذلك الزمان حتى البنايات التي أعيد ترميمها ازدانت مداخلها بشتلات من الزهور والورد حتى يخال لك أن في البناية سكانًا والآن نتجول معاً برفقة إحدى روائع محمد صادق دياب (عاشق تحت شجرة النيم) تعبت خطاه في مشوار دربها.. أحبهـا.. أحب حتى شجرة (النيم) التي كانت ولا تزال تقف بشموخ أمام باب دارهـا لتحتضن خطاه الملتهبة بظلالها الباردة في كل مرة كان يقترب فيها من خط المواجهة كان يأتي كل صباح يحمل بؤسه وفقره وبعضًا من هموم يومه فيرسل بضع نظرات حائرة تتسلل من بين أغصان شجرة النيم إلى ذلك الروشان العتيق.. وكانت تلك النظرات تكفي لبعث الطمأنينة في نفسه أيامًا.. وكان من الصعب أن تستمر الدنيا على ذلك الحال، وقد حالت ظروف فقره دون تحقيق حلمه.. فجاء اليوم الذي هبت فيه العواصف لتقتلع من حياة العاشق أمنها بزفاف زينب رفيقة طفولته وحلم شبابه ورحيلها مع زوجها بعد ذلك إلى بعيد ليبقى حمزه سنوات طويلة رفيقـًا مخلصا لشجرة النيم التي استمرت تحتضن خطاه كل صباح وهو يبكي ذكرياته، ومرت السنون على حمزة موحشة مملة تأرجح فيها بين الصعود والهبوط.. تشرق الشمس عليـه حينا وتغيب أحيانا.. تنقل خلالها في وظائف عديدة وفي مدن كثيرة حتى جاء اليوم الذي أحيل فيه إلى التقاعد ليعود صوب مدينته جدة حاملاً معه وحشة الشيخوخة وغربة الوحدة، كانت شجرة النيم العتيقة تقف في شموخ في يوم استقباله كما تركها قبل أكثر من عشرين عامًا، وكان بيت أسرة زينب يبدو موحشًا مهجورًا إلا من ضوء هزيل يتسلل من ثقوب «الشيش» في أحد الرواشين اذا ما حل المساء وكان عليه أن يدرك الحقيقة.. فلقد مزق الزمن شمل هذه الاسرة! فاختطف الموت أسرة زينب كما اختطف زوجها وابتلعت الدنيا بعد ذلك ما تبقى من أموال هذه الأسرة لتترك في النهاية زينب ذات الحسب والجاه والجمال خلف ذلك الروشان العتيق تعاني الوحدة والشيخوخة والفقر. وظل حمزة أو العاشق العجوز شهورا طويلة يقف كل صباح أمام شجرة النيم يراقب ذلك الروشان العتيق من نفس الموقع الذي كان يحتضن خطاه أيام الصبا والشباب حتى جاء اليوم الذي فتحت فيه إحدى النوافذ المهجورة وأطلت منها زينب بوجههـا الشاحب وعينيهـا الحزينتين وقد تدلت خصلات من شعرها الأبيض لتوحي للعاشق بغير لغة الكلام، إن المركب قد غرق، وإن على الربان أن ينجو بنفسه لو استطاع!
مشاركة :