بدأ تطوير الأجهزة الإلكترونية التي تعمل عمل الإنسان، سواء في المستشفيات أو في المصانع أو غيرها، والنقاش لا ينفك عن مزايا وعيوب استبدال الإنسان بالآلة، ويعزى تزايد استخدام الآلة أو الأتمتة في بداية استخدامها إلى أنها تسعى إلى نمو معدلات الإنتاج، وتحسين الإنتاجية من حيث إن الآلة أكثر كفاءة في استخدام المواد مع فاعلية عالية في تحقيق الأهداف المرجوة، كما أنها ثبتت في المصانع ذات خطوط الإنتاج الطويلة تباينا أقل بين المنتجات على طول الخط الإنتاجي، ذلك أن الآلة لا تتأثر بالحالة النفسية والجسدية. ومن جانب التشريعات وجد أن الآلة تحقق أسابيع عمل أقصر للعمالة، ففي بداية القرن الـ20 كان متوسط أسبوع العمل نحو 70 ساعة وبفضل الآلة تم تقليص هذا تدريجيا إلى أسبوع عمل عادي في الولايات المتحدة يبلغ نحو 40 ساعة، كما تسهم في تحسين معدلات السلامة المهنية للعمال في مقار العمل وفي الأماكن الخطرة والصعبة. غالبا ما تزيل الأنظمة الآلية العمال من مكان العمل، وبالتالي تحميهم من مخاطر بيئة المصنع. لقد مرت عقود طويلة كان العمال أكثر سعادة كلما دخلت الآلة إلى مقار العمل، بل كانت هناك مطالبات متزايدة لذلك، ولكن أيام السعادة والوفاق بين العمال والآلة يبدو أنها تتبدد مع وصول العالم للثورة الصناعية الرابعة. ورغم أن هناك ادعاءات واسعة بشأن ما أسهمت به الثورة الرقمية من وظائف بلغت في بعض الإحصاءات 1.1 مليار وظيفة إلى الاقتصاد العالمي، إلا أن معدل البطالة زاد خلال الفترة نفسها بنحو 1 في المائة، كما أن الآلة أسهمت بشكل قوي في إعادة توزيع العمال بين القطاعات الاقتصادية بشكل لافت، فالزراعة التي كانت تشكل نحو نصف إجمالي العاملين حول العالم قبل ثلاثة عقود تراجعت عن هذه المرتبة بخروج نحو 100 مليون عامل، وبدأت الوظائف الصناعية تتراجع في كثير من الدول الصناعية، حيث تراجع عدد العاملين في الدول الصناعية السبع من 92 إلى 79 مليون وظيفة خلال تلك الفترة، حتى الصين التي تعد بمنزلة مصنع العالم لديها تراجع في عدد موظفي النشاط الصناعي، فمن أعلى قمة وصل إليها في 2012 بنسبة 30 في المائة من إجمالي العاملين في الدولة تراجع إلى 28 في المائة خلال 2021، في مقابل ذلك بدأت القطاعات الخدمية بالتربع على المرتبة الأعلى توظيفا مع زيادتها في هذه القطاع بنحو 850 مليون وظيفة. هكذا يمكن وصف المشهد العام هناك إحلال واسع في سوق العمل العالمي بين الآلة والإنسان من جانب وبين القطاعات ذات الجهد البدني العالي إلى القطاعات الأكثر استنادا على العمل الذهني، وأيضا يظهر تأثير قواعد العمل الأكثر أمانا مع تصاعد قوى حماية العمال، حيث حفزت الشركات على تطوير تقنيات العمل في البيئة الخطرة أو المكشوفة لتفادي العقوبات بينما عززت فرص العمل في الجوانب الخدمية والإبداعية عموما مثل العمل على الإبداع في التصاميم الهندسية والحسابات، ولهذا أيضا فقد تراجعت وظائف النشاط الصناعي في الدول الصناعية الكبرى لكنها نمت في الاقتصادات النامية أو الضعيفة، كالهند التي ارتفعت وظائف النشاط الصناعي فيها من 41 إلى 117 مليونا خلال 30 عاما فقط، وفي السعودية التي توفر مستويات عالية من خطوط الأمان للعمال فقد بدأت الوظائف الخدمية في الارتفاع إلى مستويات جديدة منذ انطلاقة رؤية المملكة 2030 وذلك بحسب بيانات البنك الدولي، حيث زادت من 9.2 إلى 11.3 مليون وظيفة، وشكل نشاط الخدمات بمفرده 77 في المائة من إجمالي العاملين، ويشير تقرير لـ"الاقتصادية" نشر أخيرا إلى أن التزايد في أعدادها الخدمية يعود إلى تعزيز القطاعات الأساسية كالقطاع السياحي الذي شهد ارتفاع عدد العاملين فيه إلى الضعف من 670 ألفا في 2011 إلى 1.3 مليون في 2021، كما يظهر قطاع الترفيه كأحد القطاعات الجاذبة للعمل حيث أحدث 144 ألف وظيفة، ثم قطاع الرياضة الذي أنتج 100 ألف وظيفة، في حين تهتم المملكة بصفة خاصة بالقطاع اللوجستي، حيث تعتزم وزارة النقل والخدمات اللوجستية تنفيذ 300 مشروع عملاق باستثمارات تبلغ 133 مليار دولار لتحويل المملكة إلى مركز لوجستي عالمي بهدف تنمية الناتج المحلي الإجمالي من هذا القطاع إلى 10 في المائة، ويعني هذا ملايين الوظائف في أحد أهم القطاعات المستقبلية، وذلك بالتوازي مع التطور في التجارة العالمية ولا سيما التجارة الإلكترونية. لكن هذا النمو القوي لقطاع الخدمات وقدرته على جذب وإنتاج الوظائف قد لا تستمر طويلا فظاهرة الإحلال في الوظائف بين الآلة والإنسان تشبه إلى حد ما ظواهر طبيعية كثيرة، فهي تنتقل من مرحلة إلى أخرى فالخدمية ذات الطابع الرتيب، التي تتصف بالعمل المنتظم الروتيني ستصبح مهددة أيضا، فقد قدر منتدى الاقتصاد العالمي أن الوظائف التي ستنقرض بحلول 2027 ستتسبب في إنهاء 83 مليون وظيفة، ومن بينها وظائف الدفع في المتاجر، وكذلك المتعلقة بالترجمة والمكتبات ومدخلي البيانات أو المستويات التمهيدية من أعمال البرمجة أو المحاسبة أو التصميم وغيرها من مثل المستودعات والتسليم والاستلام. كل هذه الوظائف وغيرها مهددة بالتطورات الكبيرة في الروبوتات التي تستخدم تقنيات إنترنت الأشياء والبيانات الكبيرة التي تم تطويرها لتفكر كما الإنسان وتحل المشكلات التقليدية التي تتسم بالتكرار في الظاهرة وتعالج البيانات التي كانت تطلب وقتا أطول، ما يسهم في توفير الوقت، ورغم أن دخول الآلة لهذه الوظائف لا يجد دعما كبيرا من التشريعات كمثل التي شهدها دخول الآلة للقطاع الزراعي والصناعي من حيث حماية العمال وتقلص ساعات العمل، إلا أن جانب الإنتاجية والكفاءة في استخدام الموارد والجودة والمنافسة العالية سيكون لها قوة التشريعات في إحلال الآلة محل الإنسان في هذه الوظائف الخدمية، وفي هذا التزاحم الكبير تشير التقارير إلى أن الأكثر صمودا ستكون ما اصطلح على تسميتها "وظائف المستقبل" وهي المهارات المتعلقة بالتفكير التحليلي ثم التفكير الإبداعي ثم المهارات المتعلقة بالوعي الذاتي والمرونة والفضول، لكن بالاستقراء ومع نمو تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، فإنها قد تكون محل مزاحمة قريبا. من اللافت حقا أن ينتهي التقرير إلى أن الوظائف المتعلقة بالطاقة المتجددة، ومثال ذلك المختصون بتركيب توربينات الرياح وصيانتها وفحصها، هي التي من المتوقع أن تنمو عالميا بنسبة 36 في المائة بحلول 2026، فهناك حاجة إلى أكثر من 142 ألف فني توربينات رياح خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، خاصة في الولايات المتحدة والصين واليابان وكوريا الجنوبية، ووظائف أخرى متعلقة بأنواع الطاقات المتجددة الأخرى من الهيدروجين والطاقة الشمسية وغيرها، من مصممي الخلايا الضوئية أو أنظمة الاحتفاظ بالطاقة ومهندسي الاستدامة وغيرهم. من الملاحظ أن هذه الوظائف لا تخلو من مخاطر واضحة، والعمل في بيئات ذات تهديد، فهل عاد الإنسان من حيث بدأ وأخذت الآلة من الراحة التي سعى لها دوما.
مشاركة :