المعرفة من هيمـنة الأسطورة إلى هيمـنة الرقمنة

  • 6/23/2023
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يقول أنشتاين "لمعاقبتي على ازدرائي المرجعية، شاء القدر أن يجعلني أنا نفسي مرجعا"... بعد انتصار العلم على هيمنة الأسطورة والتفكير اللاهوتي، سيطر العلم وشق طريقه حتى وصل لما يُطلق عليه اليوم الذكاء الاصطناعي، فهل بدأ العلم يتشكل أسطوريا؟ وهل صفة الذكاء إيذانا بأخذ صفات إنسانية؟ هل هناك احتمالاً إذا أكتشف روبوتا عقارا معينا يصبح رائدا وعالما ومرجعا في مجال ما؟ فتغريدة لعالم الاجتماع المعاصر إدغار موران على تويتر أثارت عدة تحفظات، فهو غرد (o) فقط حتى بدون أقواس، فهرعت التعليقات لتأويل ما كتب، فهناك الكثير ممن أعاد نقل التغريدة، وهناك من أعجب بها، وهناك من يرى إنها القصة، وهناك من كتب بأنها اللانهاية.....الخ وهناك تعليق واحد يقول "بأن عقله خرِف" والكثير هاجمه باعتباره تعبير غير أخلاقي. وفقا لذلك ليس الفهم السائد هو موضوعنا، لكن المعنى وراء هذه التغريدة؟ هل للعلم وجها أخر كشفت عنه الرقمنة؟ ما الذي يجعل أي شيء يصدر عن عالِم هو الحقيقة؟ وهل للعلم معنى دائما؟ المعنى والفهم لتاريخ الأفكار... (الفهم والمعنى والتأويل).. هذه الثلاثية والارتكان إلى سياق "المعنى والفهم لتأريخ الأفكار"* مقالة مهمة لكونتن سكنر، ت /علي حاكم صالح جاء فيها "إن تبيين أسطورة المبادئ من خلال تواريخ الأفكار، من خلال قص أثر كيفية تشكل مبدأ معين عبر لحظات التأريخ كلها التي يظهر فيها" فيرى نواجه دائما هراء متصل عن وحدة فكرية تكتظ بسجالات لا تنتهي من أنها ربما بزغت فعلياً في زمن معين وما إذ كانت موجودة فعلياً في عمل كاتب معين"، ربما لوهلة هذا ما نتساءل عنه هو الفكرة وتأويلها، ولا يقتصر هذا الهراء لما بعد الفكرة، في جديلة تأويلها من العامة، وإنما هذه سيرورة تاريخ الأفكار هي تراكمات لتأويلات المفكرين لمن سبقوهم، فلانعطافات في المبادئ النظرية لدى أغلب المنظرين كانت واردة، وهذا ما أشتغل عليه ميشيل فوكو حول الخطاب والمعرفة بقوله في هذا الصدد "ما قد قلته هو ليس (ما أفكر)، بل هو طالما أتساءل إذا كان يمكن ألا أفكر به". وأجاز هذا الفهم ماكس فيبر في منهجه "الفهم الذاتي" "حيث تبنى منهجا صارما يرفض الجبرية وإقصاء الذات العارفة في دراسة الفعل الاجتماعي بحكم طبيعة الفعل الاجتماعي، وهذا ما يجعل من المقاربة الفهمية في حد ذاتها تسعى إلى تحقيق معرفة موضوعية منبنية على التفسير العقلي القائم على التحليل والتنبؤ، خلافا للمعنى الفلسفي للفهم الذي يحيل إلى العاطفة والوجدان، ومن ثم فالفهم عند فيبر خاصة إيجابية مميزة للعلوم الاجتماعية لما يُتيحه من فهم عميق لموضوعاته تميزه عن علوم الطبيعة"..... المعرفة خطابا اجتماعياً.. وبالتالي إذا حفرنا عن الحقيقة في الخطاب المعرفي سنجدها تتشكل اجتماعيا وكما يقول فوكو "الحقيقة هي من العالم انها تنتج هناك بفضل قيود متعددة... لكل مجتمع نظامه الخاص للحقيقة، سياسته العامة للحقيقة التي تعني نماذج الخطاب التي تحويها وتجعلها صحيحة، الآليات والأمثلة التي تتيح للمرء أن يميز بين البيانات الصحيحة والزائفة، المنهج في كليهما مُقرٌ، التقنيات والإجراءات المفضلة لإحراز الحقيقة، مكانة الموكلين بالقول إن ما حسبوه كان صحيحا". إذن هل أنتج الخطاب الرقمي معرفة جديدة؟ أم المعرفة أنتجت خطاباً رقمياً في ثناياها؟ حددنا المعرفة لأنها أوسع من العلم وتتحمل كل ما ينتجه الإنسان، فالفضاء الرقمي فتح أفاقاً أوسع للخطاب والتأويل، لكن ما يستحق فعلاً الوقوف عنده هو استباحة ميدان العلم، مما جعله حديثاً للمارة، فبعد أن كانت الاكتشافات العلمية حبيسة المختبرات وأروقة الجامعات، أصبح حديث العلم هو تغريدات وأخبار تُكشف على رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا ما حصل عند اكتشاف "سديم كارينا"، في حفل أقيم في البيت الأبيض وعجت به وسائل التواصل الاجتماعي، وظهرت فيها آلاف المجرات، بعدسة التلسكوب الفضائي جيمس ويب، وعقب على ذلك نيلسون مدير ناسا إن كل صورة من الصور هذه تمثل "اكتشافاً جديداً". وأضاف "كل صورة ستمنح الإنسانية نظرة جديدة للكون لم تعرفها من قبل". بالتالي فإن الاكتشافات العلمية، وآراء المنظرين بفعل الرقمنة أضحت خطاباً معرفياً متداول، لكن هذا يجعلنا نعود إلى موران ونستفهمه عن مرجعية العلم، وهل الرقمنة أنزلته من هالته المقدسة؟ إلى نزال حقيقي بين الفهم والتأويل؟ "كل معرفة تعتمد على معطيات أو معلومات معزولة تظل ناقصة. يجب موضعة المعارف والمعطيات داخل سياقها لكي يكون لها معنى، فكل كلمة لكي يكون لها معنى لا بد من رجوعها إلى النص الذي هو سياقها الخاص، ويحتاج النص إلى سياق حتى يكون بالإمكان إنتاجه". لذلك في كتابه "تربية المستقبل" يؤكد أن أحد الأسباب الرئيسة لتمزق العالم يرجع إلى غياب الفهم، وذلك بغيابه عن المؤسسات التربوية، ومن ثم ينتج هذا الغياب غياباً للسلام بين بني البشر، فالفهم وسيلة لتنمية الوعي الحواري، وسياج حام من الوقوع في مزالق الخطأ والوهم المعرفي، والطريق للبعد عن هيمنة المعرفة المجزأة، وهو الرابط بين الأجزاء والكليات، وهو السبيل للاعتراف بالآخر والتواصل بين بني البشر. وللفهم مستويين الأول فهم عقلي يعتمد التفسير والموضوعية، والمستوى الثاني الفهم الإنساني الذي يتعلق بفهم الذات للأخر، وهكذا نصل إلى استنتاج أن الرقمنة أتاحت الفهم الإنساني للمعرفة على حساب الفهم العقلي.. مما شكل أزمة فهم.......

مشاركة :