(لا ندعو أبدًا إلى سياسةٍ دينية أو مسيحيةٍ سياسية. الدين ثابت. والسياسة متغيرة. ما نطرحُه هو مدخلُ دينى لرؤية السياسة، وفهمُ إيمانى لأبعادها). هكذا وضع أنطوان أدريان لاموريت، أسقف مقاطعة الرون واللوار, الأساس الأول لما عُرف بالديمقراطية المسيحية، خلال حديثه أمام الجمعية التشريعية فى فرنسا عام 1791، بعد عامين من الثورة التى قادت تداعياتُها إلى علمنة السياسة وإبعاد كل ما يتعلق بالدين عنها. لم يكن الصدامُ قد وقع بين الثورة والكاثوليكية، ولم يكن الاتجاهُ العلمانى الكامل قد تغلب بعد. وكان ذلك، أيضًا بالطبع، قبل أن يُدين البابا جيوس السادس ما سماها حرية مُطلقة تريدُ الثورةُ فرضها، ويستنكر ما أطلق عليه إعلاء حقوق الإنسان المتمرد فوق حقوق الله. غير أن ذلك الصدام لم يحل، عندما حدث، دون مواصلة أوروبيين فى بلدانٍ عدة البحث عن طريقٍ ما بين شرور القهر والبؤس وأخطار العنف الثورى. لم يكن طريقًا دينيًا ذلك الذى اهتدوا إليه تدريجيًا، بل كان نهجًا انطلق من إيمانٍ دينى، واستلهم روح الدين وقيمه، ودربًا كان التمييزُ فيه واضحًا بين الدين ورؤى مسيحية للحياة، وانطوى على مشروعٍ اجتماعىٍ سبق الاشتراكية فى رفض استغلال العمال والضعفاء، ولكنه تجاوزها بعد أن شُوهت الماركسية ونُزع منها روحُها، وفُرض الإلحادُ باسمها, وهى منه براء، فى الاتحاد السوفيتى السابق وتوابعه. وخلال ما يقربُ من قرنٍ ونصف القرن مرت الديمقراطية المسيحية حين كانت فكرةً، أو أفكارًا، بمراحل عدة لم يُخلط الدين والسياسة فى أىٍ منها، بل ظلت أقرب إلى ما يُطلق عليه فى بلدان مسلمة عدة «الإسلام الحضارى». ولهذا فعندما بُدئ فى تشكيل أحزابٍ ديمقراطيةٍ مسيحية فى بعض الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن هناك شك فى أنها أحزابُ سياسية وليست دينية. ولم تكن مهمتُها الأساسية مواجهة الإلحاد القادم من شرق القارة بخلاف ما يظنُ بعض الدارسين، بل تحقيق مصالحة تاريخية بين العلمانية والكاثوليكية. وحقَّقت نجاحًا ملموسًا فى هذه المهمة. كما تمكن بعضها من تحقيق إنجازاتٍ كبرى، خاصةً الحزب الديمقراطى المسيحى الألمانى.
مشاركة :