إذا كان النقد الثقافي يهدف الى "بناء بديل منهجي جديد يهتم باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة، ودراستها في سياقها الثقافي والاجتماعي والسياسي والتاريخي، والمؤسساتي فهماً وتفسيراً" فإنه بناء على ذلك فنحن أمام نوعين من الممارسة، منها ما يتعلق بالنشاط الثقافي الانساني العام، الحياة اليومية، وما يعاش، ومنها مايحلل النصوص والخطابات الأدبية والفنية والجمالية في ضوء معايير ثقافية وسياسية واجتماعية وأخلاقية.. يتحفنا البروفيسور والمفكر والناقد وأستاذ الجماليات المخرج العراقي الكبير عقيل مهدي يوسف – دوماً- بجديده الذي لا ينقطع من الأفكار والرؤى التي تغوص في عوالم الثقافة والمعرفة والجمال، وتأليف وإصدار الكتب المسرحية خاصة والثقافية عامة التي كانت أحد وجوهه الناصعة، والتي ناهزت السبعين مؤلفاً تدخل في أساسيات الدرس المسرحي الأكاديمي القائم على النظرية، والتطبيق، والتجريب، والإستلهام من مدارس المسرح العالمية التي درسها أكاديمياً، وكان آخرها كتابه الجديد "ما وراء النقد الثقافي" الصادر في 130 صفحة من القطع المتوسط عن دار الآداب والفنون في مدينة البصرة بإدارة الدكتور حسن النخيلة. يقول في مقدمة كتابه وبكل تواضع ومهنية يحسد عليها: "قمت بترجمة مباحث هذا الكتاب بغبطة معرفية واضـحة، لمـا وجدت فيها من مكونات فكرية أساسية، لكُتّاب مفكرين جمعتنـي مـع بعضهم علاقات أكاديمية مباشرة، ومعرفـة شـخـصية متفاعلـة مع مشاريعهم الفنية والجمالية، ولما عُرفِوا به من عمق معرفـي وحذاقـة حرفية'. ويضيف: "وتعرفت على البعض الآخر من خلال ترجمته إلى لغـة أجنبيـة ثانية .. وبالتحديد من اللغة الروسية مترجماً إلى اللغة البلغارية وأظـن أنّ انتقاء موضوعات بعينها ، لم يأت عفو الخاطر - كما يقال – بل قام على استجابة ذاتية وهدفية دقيقة لتفهّم 'وجهة النظر' المغايرة للسائد من طروحات أخرى متداولة فيها الغثّ والسمين'. لقد احتوت المباحث المترجمة إلى العربية في هذا الكتاب على "مهيمنـات تأريخيـة تخصّ نظرية الأدب، والفـن، وأخـرى تتجـاوز البعـد التـأريخي والتأرخة، أو الارشفة بمعناها الثقافي، لتتصل بمفهومات علم الجمال، أو حقول الجماليات التي تضم عنوانات تنظيرية وأخرى تطبيقيـة، أو تقف عند عتبات بعينها شكّلتْ مفصلاً إبداعياً هاماً في مسيرة الفكـر ماوراء الثقافي، لتحكّمها في صياغة مادته، وتصميمها لموضوعاتها على وفق نظرات محدثة، هاجسها ربط مصفوفات المسرح، والسينما، والأدب، والموسيقى، والأنثروبولوجيا والأسطورة في جملة مجتمعية تتساقط منها قطرات ثقافية، تتدفق في مسارات أشمل، وأكثر غنى من التلقي المألوف'. يطوف الكتاب بنا - في مباحثه المترجمةً - عند عوالم ومفاهيم ورؤى ومصطلحات وتنظيرات وتمفصلات جمالية متنوعة يتوقف فيها عند "الكوميديا دي لارتا"، لينتقل الى "الثورة الفرنسية والمســـرح"، ومن ثم الى تقديم "وجهة نظر" في الفـــن المسـرحي، وصولاً الى "مســــرح العــبث"، وفرقة الباليه "الفرنسيـة"، و"التكوين المسرحــي وطبقات المعنى"، و"التمرين حبي"، و"موت التراجيديا" و"إبسن وانطوان وتولستـــــوي..". ويبحر بنا البروفيسور عقيل مهدي يوسف في التقاطاته المعرفية الرصينة التي تضج برؤى فلسفية وجمالية عميقة لا غنى لأي متخصص أو هاو لفنون الإبداع عنها، فيتوقف عند "النقد الأدبي وتاريخ الادب"، و"الايقاع والانفعال"، و"الشعر صـورة فلسفيـــة حيـــة"، و"فلسفـــة الجمـــال"، و"شولوخـــــوف". ويقدم لنا "قراءة جمالية لمخــــرج معاصر" هو توفستنوجوف أحد المخرجين الكبار ومن تلامذة ستانسلافسكي الذين طوروا منهجيته بطاقاتهم الابداعية في كتابه الموسوم "حرفية المخرج" الذي يؤكد "لايوجد في الفن مايجعل اليوم مثل البارحة أو غداً مثل اليوم، فالفن هو دوما عملية بحث، وحركة التوقف تعني التخلف ، فالعرض الجديد، هو طرح لقضايا جديدة ومشاكل وبحوث جديدة، ليس في الفن حقائق أزلية، وإنما مفاهيم ثمينة." ولا يكتفي بذلك فيضيء لنا في مباحث أخرى "المعالجة التقنية والشـرطية في الفن"، و"حقيقة الفكرة الإبداعيـة"، و"العرض حدث تشكيلـي..". وعندما ينتقل الى فن السينما فإنه يختار زوايا لالتقاطاته في عوالم فن السينما ترتكز على مفهوم أو وجهة النظر في النـص والسيناريو، و"عين المخرج السينمائي الرائد إيزنشتاین"، و"ذاكرة المسرح واخــراج السينما"، و"ماتريده السينما ... وينبذه المسـرح"، موضحاً عبرها رؤى جوهرية لاسيما تلك التي تتعلق بالسينمائيين "الذين يقرأون نص المسرحية بأفكار تدور في سرائرهم هي السعي لتقديمها سينمائياً، ورجال المسرح الذين بدورهم يقرأون سيناريوهات لأغراض تخصهم، فنحن لا نعرف مثلاً كيف أصبحت مسرحية "تحت رقبة السرك" الى سيناريو للفيلم الشهير "السيرك" والعديد من النصوص المسرحية الأخرى، لكننا لا نجد سوى سيناريو واحداً هو "باص المساء" الذي تحول الى الى مسرحية "طريق إلى نيويورك" ليتساءل: "ما الذي يحفزنا لمعالجة نص كتب بلغة سينمائية وتحويله الى نص مسرحي؟". الباحث المترجم الذي سبق له أن ترجم كتاب "فن الممثل" للكاتب والباحث البلغاري "كوجو كوجيف"، وصدر عن "دار الفنون والآداب" و"مركز إنانا للأبحاث والدراسات والترجمة" ـ العراق "البصرة" وكان لنا شرف الكتابة عنه، يؤكد في خاتمة كتابه "مابعد النقد الثقافي" أن القاريء لم يجد "عنواناً لمبحث يقع تحت مسمى "ماوراء النقد الثقافي" ولكنه تعرف بممارسته للقراءة على ذلك الأفق الما ورائي للثقافة، وهو يتراسل مع موضوعات الكتاب المختلفة والمتنوعة'. ويسترسل فيقول"حرصاً مني، بوصفي مترجماً للمباحث المذكورة، آثرت اختيار هذا العنوان، لأنني وجدته رابطاً للموضوعات التي تبدو مستقلة في ظاهرها لكنها في عمقها تمتح من أرضية الابداع المشتركة...، أو طرائق تلقيها بوتائر حساسية جمالية عالية من لدن القراء المثقفين". ونتفق معه في أن "هذا الكتاب الصغير في حجمه، كبير في مغزاه ونفعه.. فهو يخاطب القاريء بمثل ما يخاطب الفنان والأديب والناقد على السواء'.
مشاركة :