تهدينا التطورات التقنية اختصارات عديدة توفر على الإنسان الجهد وتحد من إهدار الوقت. وكذلك العقل البشري الذي يجاري بيئتَه ويتكيف معها، فإنه ما يزال يطور تشريعاته الوضعية لضمان انسياب «نهر الطمأنينة»، ولأدائه واجبه في جو تشاركي بعيد عن مظاهر الظلم والتعدي. ولا تتوانى المنظمات القائمة على احتضان الحق الإنساني ومراقبة «علاماته الحيوية» في كل مجتمع، عن صياغة استراتيجيات توجِّه السلوكَ الإنساني وتذكر بأساساته، وتؤكد ضرورة إبقاء القيم الأخلاقية باتصال دائم لا ينقطع. ومع تطور الإنسان باتت المجتمعات تتلقف أخباراً جديدةً باعتبارها «حريات»، لتهبط عليها كشظايا ملتهبة تلتهم التوازن الإنساني، وتعكر صفو الوعي الإنساني بنُسخٍ مشوشة لمفاهيم الحرية والحق والأخلاق. الزج بمفاهيم غريبة والادعاء بأنها تأتي ضمن ساحة «الحريات» مشكلة خطيرة، لا سيما أنه جاء عبر ضخ جهد كبير في مشروع لم تتضح أساساته بعد.. وإلا فهل يعقل تحويل الإنسان كسلعة من السلع؟ وهل تستحق طموحات الشركات الكبرى بتكسير الرقم القياسي لأرباحها بالاتجار بعقول الجيل الذي يعول عليه في الفوز برهان المستقبل؟ وكيف يمكن تخليص المنظومة الفكرية مما علق بها من ترسبات وتلوثات «ثقيلة»؟ ما يبث في بعض الأوساط الأكاديمية بشكل خاص من إثراء للتوجهات الغريبة، هو أخطر ما قد يواجه البشرية، لما يترتب عليه من بناء فكري وثقافي سيشكل لبنةً أساسيةً في المجتمع، منتقلاً في مراحل أخرى ليكون جزءاً من تاريخ إنساني متناقل ومتوارث ومحل للدراسة، والذي لا نرجو إلا أن يكون أحد الدروس المندرجة تحت «الحسابات الخاطئة لانفلات الحريات الإنسانية وتداعياتها». وفي البيئة التعلمية خصوصاً تكمن خطورة الفكر الذي يبدأ من المصطلح، للتغطية على وجود اضطراب عاطفي ونفسي. وعليه، فإن الثقافة المبتغاة في المناهج الدراسية هي التي تعمل على تقويم ما أفسدته «السوشيال ميديا» بدلاً من مساندة تلك الحالات بما يلزمها من علاج نفسي وسلوكي. العقل يرفض الأخذ بالتوجهات اللامنهجية، وحين يصف الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الحرية بأنها ماء متدفق دون وعاء حاوٍ له، فإن ذلك بلا شك لا يمكن اعتباره تعريفاً دقيقاً يتناغم وما يصبو له الإنسان، إذ يقول عن الحرية إنها: «الغياب التام لكل العراقيل التي تعترض أي حركة»، لكن هرولة العقل لتبني مثل هذه الشروحات تمثل بيئة مفاهيمية تحتمل أكثر من معنى، لا سيما أن «انكسار القيد» كلياً لا يعبر عن الحرية بالضرورة بقدر ما هو انعكاس صريح لحالة من الفوضى المنظمة المتوشحة بلفظ «الحريات». *أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
مشاركة :