هل تغيّر الروس؟ - د. زهير الحارثي

  • 3/1/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

الشراكة مع الروس ضرورة وتعزيز العلاقات مطلب وعودتهم للساحة كسر للاحتكارية القطبية وتغيير مواقفهم السياسية يسير المنال إذا ما عُزز الحوار واللقاءات المباشرة ووضعت النقاط على الحروف.. عندما غادرت موسكو أيقنت أن تلك الصور النمطية المحشوة في عقلي على مدى العقود الماضية حول روسيا وشعبها ليست بالضرورة صحيحة. لم تكن موحشة كما كنا نقرأ وشعبها طيب بشوش لا يمارس شعارات المافيا وعالم المخدرات والسلاح. بلد يعكس جماليات الحياة ويذكرنا بشيء من الزمن الجميل. الانطباع الذي تعيشه لأول وهلة انها مدينة باذخة وجميلة وأهلها ليسوا عنصريين بل مسالمون ومتصالحون مع أنفسهم ومع ما حولهم من دون تصنع أو تشنج، ويحبون حياتهم المفعمة بالسعادة والتآلف والتسامح. مدينة تكسوها الثلوج والحياة تسير فيها بشكل طبيعي واعتيادي والحركة دائبة. تجد فيها عراقة التاريخ ومظاهر بناء وتحديث وتنمية اقتصادية. المتأمل لما يجري في روسيا يشعر بمناخ جديد يتعلق بالحداثة الفكرية والثقافية، أي إنتاج وعي ثقافي وفكري وتنموي في المنظومة الاجتماعية. تلتقي مع شرائح عدة مسؤولين وبرلمانيين ومثقفين وناشطين فتجدهم يؤكدون انهم يحترمون تاريخهم أي الاتحاد السوفيتي ولكنهم لم يعودوا مرتبطين به بل استطاعوا الانفكاك من قيوده. تغيروا فكراً وثقافة ورؤية وباتوا أكثر انفتاحاً وانسلخوا من مأزق الأيديولوجيا. بلادهم تتكون من أقاليم بثقافاتها وحضاراتها وبينهم منظومة فريدة من تناغم واحترام وتعاون فلا تلمس خللاً وانقساماً في طبيعة الحياة الاجتماعية ونموها أو حالة من الانفصام ما بين الوعي الاجتماعي والتطور المادي. لا يشتكون من أزمة هوية أو تصادم مفاهيم بل دولة تجسد معنى التعايش في أبلغ صورة. طبيعي أن تكون هناك صور معاناة وقسوة ظروف، إلا أن السعادة والقناعة وراحة البال ساكنة في جوف الناس وسمة بارزة لبيئتهم. في باب عالم الفلسفة نفهم بأن جمال الحياة ومتعتها يتجلى بمقدار كشف وإظهار ما هو موجود فيها. المفكر هيدجر على سبيل المثال احتفى بحياة الفلاح الذي ينتمي للأرض ولا يحمل هموماً وتجده سعيداً هانئاً بحياته في حين انه انتقد المدينة الحديثة التي لا جذور لها، وشبه تاريخ الإنسان الحقيقي بمراحل نمو القمح كونه متجذراً في الأرض، فينمو ويكبر ويتطور ليصير خبزاً. كنت أظن أن نسيجهم المجتمعي بات ممزقاً بعد كل تلك التحولات. أعني علاقاتهم الإنسانية وخيوط تواصلها الاجتماعي. ولكنهم استطاعوا التمسك بهذا الترابط المجتمعي رغم التسارع العلمي وفوق هذا كله لديهم اعتداد في قدراتهم وإمكاناتهم وانه يسعدهم أن يساهموا في تعزيز الأمن والاستقرار في العالم. لا ينكرون أن لديهم معلومات مغلوطة عنا ولكن بالمقابل يرددون ان لدينا قناعات وتصورات مغلوطة عن بلدهم وثقافتهم وحتى عن طبيعة وأهداف قراراتهم السياسية ويصرون أن كل قرار يتخذونه يتعلق في المقام الأول بمصالحهم وأمنهم القومي. بوتين يريد إعادة الإمبراطورية القيصرية، وقد زادت شعبيته بعد استعادته للقرم. اهتمام الروس بالقرم له علاقة بتوسيع تمركزها البحري في المنطقة. الشرق الأوكراني تاريخياً له ارتباط بروسيا بدليل الجالية الروسية الكبيرة (العرق الروسي يمثل الأغلبية في القرم بنسية 58%) بخلاف الغرب الأوكراني الذي يميل للغرب. غير أن النقطة الأهم تتعلق في موقع أوكرانيا الذي يعتبر الجسر الذي يصل روسيا بأوروبا وبالتالي من الصعوبة بمكان أن تفرط موسكو فيه. كما أن في القرم قاعدة بحرية روسية سبق أن طالبت الحكومة الأوكرانية بإخلائها ما يعزز مخاوف الروس. إذاً المسألة كما يبدو تتعلق بأمنها القومي الذي تمثل القرم فيه نقطة تماس مع حلف الناتو وبسبب موقعها الجغرافي وأصولها الديموغرافية. الروس قاموا بمراجعة ذاتية في السنوات الأخيرة وتوصلوا لقناعة مفادها، ان فكرة تخليهم عن إفرازات الحرب الباردة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وإلغاء فكرة المواجهة مع الغرب وعدم الاهتمام بالشرق الأوسط، لم تكن رؤية سديدة لأنها انعكست على فاعلية دورهم على المسرح العالمي. بطبيعة الحال لم يكن حضور الدب الروسي طاغياً بقدر ما يعكس تراجعاً للأحادية القطبية الأميركية التي ظلت على انفرادها منذ نحو ربع قرن. بدا واضحاً أن قيصر الكرملين كان قد حسم موقفه ليس من أجل نظام الأسد الذي يربطه بنظامه علاقة استراتيجية فحسب بل أيضا لإعادة توهج روسيا وخلق مساحات نفوذ لبلاده. ليس سراً أن هناك صراعاً بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حول مناطق النفوذ في العالم كالشرق الأوسط وأميركا اللاتينية ومنطقة القوقاز فضلاً عن أن روسيا تعامل الأزمة السورية كأهم معركة لها في البحر المتوسط لأنه بخروجها من هناك يعني أنها قد غادرت الشرق الأوسط كله. وهذا صحيح لكن الأكثر صحة كما أعتقد أن هناك تفاهمات روسية أميركية حول ما جرى ويجري ويبدو أن الملفات الأوكرانية والسورية والإيرانية خضعت لسياسة التوافقات ما بين البيت الأبيض والكرملين. قد نتفق مع الروس وقد نختلف إلا انهم واضحون فإذا قطعوا عهداً يلتزمون به. الوفاء بالعهود من أدبياتهم ومتجذرة في ثقافتهم. إن أردنا أن يصغوا إلينا فمن المهم أن يسمعوا من شرائح متعددة وليس فقط الخطاب الحكومي الرسمي. صفوة القول: الشراكة مع الروس ضرورة وتعزيز العلاقات مطلب وعودتهم للساحة كسر للاحتكارية القطبية وتغيير مواقفهم السياسية يسير المنال إذا ما عُزز الحوار واللقاءات المباشرة ووضعت النقاط على الحروف فما يجمع الرياض وموسكو هو أكثر بكثير من نقاط الاختلاف. zualharthi@gmail.com

مشاركة :