تشهد التقنية الرقمية تطورا مستمرا في مجالاتها المختلفة، ليعطي استخدامها بذلك مزيدا من الفوائد، ويسبب أيضا مزيدا من التحديات. وقد بدأنا في المقال السابق طرح مسألة منهجية المرونة في التعامل مع هذه التقنية للاستفادة من فوائدها بأفضل وجه ممكن، ومواجهة تحدياتها بالأساليب المناسبة من أجل تحقيق استدامة هذه الفوائد، وتفعيل تزايدها مع التقدم التقني المشهود. وتم في هذا الإطار، النظر إلى منهجية المرونة على أنها تصور متكامل لخصائص التقنية الرقمية، وأثرها في شؤون الحياة. وتضمن ذلك السعي إلى إدراك مضامين هذا التصور، واستيعاب معطياته، وتفهم جوانبه المختلفة، إضافة إلى الاهتمام بصموده أمام التحديات التي يواجهها، واختيار التوجهات المناسبة للتكيف اللازم للتعامل معه، بما يؤدي إلى استمرارية الاستفادة من معطياته، بل تفعيلها نحو الأفضل. كل ذلك في إطار الالتزام بمكارم الأخلاق. بين المقال السابق أن فوائد استخدام التقنية الرقمية تشمل توفيرا في القيمة التي يحتاج إليها تنفيذ النشاطات المختلفة في غياب هذه التقنية. ويتجلى ذلك في توفير الزمن، ومساحات العمل، وغير ذلك. وتتضمن هذه الفوائد أيضا معطيات جديدة غير مسبوقة، مثل التحكم في أداء الأنظمة الميكانيكية، وإيجاد فرص لأعمال جديدة غير مسبوقة، فضلا عن الارتقاء بمستوى جودة الحياة، وغير ذلك. وأظهر المقال أيضا أن لتحديات استخدام هذه التقنية أربعة محاور رئيسة متكاملة تشمل: محورا بشريا، وآخر مهنيا، وثالثا، تشريعيا، ورابعا، تقنيا. إذا بدأنا بالنظر إلى فوائد التقنية الرقمية، فإن الحقائق حول العالم تشير إلى إدراك واسع النطاق لفوائد التقنية الرقمية. ويشمل ذلك شتى القطاعات، العامة منها والخاصة، حيث يدفعها هذا الإدراك إلى تبني مسيرة التحول الرقمي. وانطلاقا من هذه الحقائق، فإن منهجية المرونة تقضي بالحاجة إلى مواكبة العالم، والالتزام بمسيرة هذا التحول، وتوجيهها نحو أفضل النتائج. وهناك جانبان رئيسان لمسيرة التحول الرقمي، جانب توفر الخدمات الإلكترونية من جهة، وجانب استخدام هذه الخدمات والاستفادة منها من جهة أخرى. بالطبع يسبق جانب توفر الخدمات جانب استخدامها زمنيا، ولعل من المناسب هنا العمل على الحد من زمن السبق هذا من أجل الاستفادة من فوائد الخدمات دون تأخير يؤدي إلى هدرها. وتختلف الخدمات الإلكترونية في متطلبات الحد من زمن السبق. فالخدمات الحكومية المتاحة إلكترونيا تمثل ضرورة للجميع، وتتطلب فقط معرفة كيفية التعامل مع هذه الخدمات. وتتشابه الخدمات التجارية الإلكترونية مع هذه الخدمات، ولو أن جانب الاختيار في استخدامها أو عدم استخدامها متاح، إلا أن انخفاض تكاليف السلع وسهولة التعامل، عبر التجارة الإلكترونية، يصب في مصلحة الاستخدام. ويبقى في التحول الرقمي خدمتان رئيستان هما: خدمة العمل عن بعد، وهي متوافرة على نطاق واسع، لكنها مستخدمة ضمن نطاق أقل اتساعا بسبب التحديات التي تواجهها، وخدمة الذكاء الاصطناعي، حيث يؤدي هذا الذكاء أعمالا تنافس عمل الإنسان في مهن مختلفة، وتتوافر هذه الخدمات بشكل يتزايد تدريجيا، لكن استخدامها يواجه تحديات أكثر صعوبة. وسنناقش تحديات استخدام هاتين الخدمتين الرئيستين، ومتطلبات مرونة التعامل معهما فيما يلي، من خلال المحاور الأربعة سابقة الذكر التي تشمل كلا من المحور البشري، والمحور المهني، والمحور التشريعي، والمحور التقني. إذا بدأنا بالمحور البشري، في إطار خدمة العمل عن بعد، لوجدنا أن تنفيذ هذه الخدمة من أجل النشاطات المعلوماتية القائمة في شتى المجالات، يحمل مشكلة اختراق العادات البشرية، أي ما تعود عليه العاملون عبر السنين. ويؤدي هذا الأمر إلى معارضة كثير من هؤلاء لتبني هذه الخدمة، خصوصا أبناء الجيل الأقدم من العاملين، وهؤلاء هم الأعلى منصبا والأقدر على فرض إرادتهم. وفي إطار المحور المهني، تشمل مثل هذه المعارضة شتى المهن، بما يمثل نطاقا عريضا من العاملين. ويأتي المحور التشريعي داعما لذلك، لأن كثيرا من المؤسسات تقيم العاملين فيها على أساس الحضور الشخصي إلى مكان العمل في أوقات الدوام الرسمي قبل أي عامل آخر. ثم يبرز المحور التقني في مصلحة هذا الأمر عندما يكون العاملون غير مؤهلين تقنيا للعمل عن بعد. وإذا انتقلنا إلى خدمة الذكاء الاصطناعي، لوجدنا الأمر أكثر تعقيدا، فالمحور البشري يلقى تحديا وجوديا، ويشمل هذا التحدي عددا من المهن في إطار المحور المهني. ويضاف إلى ذلك تحدي المحور التشريعي، حيث إن عمل الذكاء الاصطناعي في مختلف المهن مستحدث تماما، ويحتاج إلى تشريعات تنظيمية جديدة. وفي إطار المحور التقني، فإن تقنية الذكاء الاصطناعي في تطور يعطيها إمكانات متزايدة تتطلب، ليس فقط تأهيلا تقليديا، بل تأهيلا يهتم بتنمية التفكير، ويعتمد على التعلم مدى الحياة، وإدراك المستجدات. تحتاج تحديات خدمتي العمل عن بعد والذكاء الاصطناعي إلى منهجية المرونة في التعامل معهما. فالغاية المنشودة هي الاستفادة القصوى من التقنية الرقمية وتفعيل ذلك اقتصاديا واجتماعيا. ولمنهجية المرونة، في هذا الإطار، أمران رئيسان. أولهما، دراسة كل من هاتين الخدمتين بكل أبعادهما، وإدراك مضامينهما واختلافاتهما، وفهم البيئة المحيطة بهما، عبر المحاور الأربعة سابقة الذكر، أي بشريا ومهنيا وتشريعيا وتقنيا، أو ربما أي أسلوب مهيكل آخر. أما الأمر الثاني فينطلق من الأول، مستوعبا ما قدمه، ومتوجها نحو وضع الحلول الملائمة، التي تتكيف المتطلبات وتستجيب لها، من أجل تحقيق الغاية المنشودة في الاستفادة المثلى من التقنية الرقمية. وإذا نظرنا من حولنا، في المملكة، لوجدنا أن توجهها نحو التحول الرقمي بدأ منذ عقدين من الزمن بالخطة الوطنية لتقنية المعلومات، والمشاركة الفاعلة في قمة المعلومات عامي 2003 و2005. وتعزز هذا التوجه برؤية المملكة 2030 وخطط المؤسسات والهيئات المرتبطة بالتقنية الرقمية. وقد حققت المملكة تميزا مشهودا على المستوى الدولي في الخدمات الإلكترونية، وأسهمت في إنشاء منظمة التعاون الرقمي الدولي من خلال جهودها في رئاسة قمة العشرين في 2020. ولعل هذا المقال وما سبقه يسهمان في التوعية بشأن تفعيل مسيرة التحول الرقمي نحو بناء مجتمع رقمي معزز باقتصاد رقمي معطاء.
مشاركة :