جريمة الاحتكار في منظور الشرع الشريف (2/2)

  • 7/14/2023
  • 02:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

بقلم‭: ‬الدكتور‭ ‬أحمد‭ ‬علي‭ ‬سليمان نستكمل‭ ‬ما‭ ‬بدأناه‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ونقول‭: ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يعاني‭ ‬فيه‭ ‬العالم‭ ‬بأسره‭ ‬مشكلات‭ ‬اقتصادية‭ ‬وتفشي‭ ‬الغلاء،‭ ‬وضعف‭ ‬التبادل‭ ‬التِّجاري،‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬الحاجة‭ ‬الماسة‭ ‬إلى‭ ‬الأغذية‭ ‬والأدوية‭ ‬والمستلزمات‭ ‬الطبية‭... ‬والتي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تُبذل‭ ‬لكل‭ ‬مريض‭ ‬ومحتاج‭ ‬بسهولة‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬مغالاة‭ ‬وبمكسب‭ ‬قليل‭ ‬جدا؛‭ ‬حتى‭ ‬يتعافى‭ ‬المرضى،‭ ‬ويشبع‭ ‬الجوعى‭ ‬والمحرمون،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬بعضًا‭ ‬ممن‭ ‬أعماهم‭ ‬الشيطان،‭ ‬وملأ‭ ‬الجشع‭ ‬قلوبهم،‭ ‬يحتكرون‭ ‬أقوات‭ ‬الناس،‭ ‬وأدويتهم،‭ ‬وحاجياتهم‭ ‬الضرورية‭... ‬وغيرها،‭ ‬ويدور‭ ‬الشخص‭ ‬وأهله‭ ‬‮«‬كعب‭ ‬داير‮»‬‭ ‬لمحاولة‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحاجات‭ ‬الضرورية‭ ‬لحياته‭ ‬ونجاته‭ ‬وللأسف‭ ‬لا‭ ‬يجدونها‭.. ‬فيزداد‭ ‬المريض‭ ‬همًّا‭ ‬على‭ ‬همَّه،‭ ‬ويزداد‭ ‬الفقير‭ ‬حزنًا‭ ‬على‭ ‬حزنه،‭ ‬ويزداد‭ ‬المحتاج‭ ‬قلقًا‭ ‬على‭ ‬قلقه‭.. ‬ويا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬خيانة‭ ‬وجرائم‭ ‬مركبة‭ ‬من‭ ‬المحتكِر‭!‬ إنني‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬أطالب‭ ‬بالضرب‭ ‬بيد‭ ‬من‭ ‬حديد‭ ‬على‭ ‬هؤلاء‭ ‬المحتكرين‭ ‬الذين‭ ‬خانوا‭ ‬الله‭ -‬تعالى‭-‬،‭ ‬وخانوا‭ ‬رسوله‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭)‬،‭ ‬وخانوا‭ ‬الوطن‭ ‬والناس‭ ‬والأمانة،‭ ‬وباعوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬للشيطان،‭ ‬واسترخصوا‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الوباء‭ ‬والغلاء‭ ‬الذي‭ ‬أتعب‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭.‬ لقد‭ ‬رتَّب‭ ‬الإسلام‭ ‬الحنيف‭ ‬‮«‬لولي‭ ‬الأمر‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الآفات‭ ‬ومعالجة‭ ‬آثارها؛‭ ‬بما‭ ‬يحقق‭ ‬المصلحة‭ ‬العامة‭ ‬للناس،‭ ‬ودفع‭ ‬الضرر‭ ‬العام‭ ‬عن‭ ‬البلاد‭ ‬والعباد؛‭ ‬ومن‭ ‬ثمَّ‭ ‬له‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬إجبار‭ ‬المحتكِر‭ ‬على‭ ‬بيع‭ ‬السلعة‭ ‬بسعر‭ ‬المثل،‭ ‬أو‭ ‬نزعها‭ ‬من‭ ‬يده‭ ‬وبيعها‭ ‬بسعر‭ ‬المثل‭ ‬وإعطائه‭ ‬حقه،‭ ‬وللحاكم‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬تسعير‭ ‬البضائع،‭ ‬وإجبار‭ ‬المستغلين‭ ‬على‭ ‬بيعها‭ ‬بالسعر‭ ‬العادل،‭ ‬وله‭ ‬الحق‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬مصادرة‭ ‬المال‭ ‬الحرام‭ ‬إن‭ ‬علم‭ ‬به‮»‬‭ (‬موسوعة‭ ‬عناية‭ ‬القرآن‭ ‬بحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬د‭. ‬زينب‭ ‬أبو‭ ‬الفضل‭)‬،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يَجوزُ‭ ‬للحاكِمِ‭ ‬إجبارُ‭ ‬مُحتَكِرِ‭ ‬الطَّعامِ‭ ‬على‭ ‬البَيعِ،‭ ‬إذا‭ ‬خِيفَ‭ ‬الضَّرَرُ‭ ‬على‭ ‬العامَّةِ،‭ ‬وذلك‭ ‬باتِّفاقِ‭ ‬المَذاهِبِ‭ ‬الفِقْهيَّةِ‭ ‬الأربعةِ،‭ ‬دفعًا‭ ‬للضرر‭ ‬العام،‭ ‬وبذلك‭ ‬يحمي‭ ‬الإسلامُ‭ ‬الناسَ‭ ‬من‭ ‬الغشِّ‭ ‬والاستغلالِ‭ ‬والجشعِ‭ ‬والمغالاةِ‭. ‬ كما‭ ‬أطالب‭ ‬الجميع‭ ‬بالتحلي‭ ‬بمنظومة‭ ‬القيم‭ ‬الإسلامية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬قيمة‭ ‬الإيثار‭ ‬والقناعة،‭ ‬وتطبيقها‭ ‬في‭ ‬واقعنا‭ ‬المعاش،‭ ‬وعدم‭ ‬تخزين‭ ‬الأدوية‭ ‬والأغذية‭ ‬وغيرها؛‭ ‬بما‭ ‬يتسبب‭ ‬في‭ ‬حرمان‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬الحصول‭ ‬عليها؛‭ ‬حتى‭ ‬تُتاح‭ ‬لكل‭ ‬المحتاجين‭. ‬فما‭ ‬فائدة‭ ‬تخزين‭ ‬الأدوية‭ -‬مثلا‭- ‬في‭ ‬البيوت‭ -‬ولسنا‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إليها‭- ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬غيرنا‭ ‬قد‭ ‬يَلقى‭ ‬حتفه‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬وجودها؟‭!‬ وهكذا‭ ‬فنحن‭ ‬جميعا‭ ‬علينا‭ ‬عبء‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نتكاتف‭ ‬جميعًا،‭ ‬ونكون‭ ‬كالجسد‭ ‬الواحد،‭ ‬إذا‭ ‬اشتكى‭ ‬منه‭ ‬عضو‭ ‬تداعى‭ ‬له‭ ‬سائر‭ ‬الأعضاء‭ ‬بالسهر‭ ‬والحمى،‭ ‬بحيث‭ ‬يساعد‭ ‬بعضُنا‭ ‬بعضًا‭.. ‬ويؤثر‭ ‬بعضُنا‭ ‬بعضًا‭.. ‬نعم‭ ‬قد‭ ‬يستطيع‭ ‬الشخص‭ ‬أن‭ ‬يؤثر‭ ‬غيره‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬أما‭ ‬أن‭ ‬يؤثر‭ ‬أخاه‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬سكرات‭ ‬الموت،‭ ‬فهذا‭ ‬إيثار‭ ‬أعجب‭ ‬من‭ ‬الخيال‭!!‬ وقصة‭ ‬الصحابة‭ ‬الكرام‭ ‬الذين‭ ‬ماتوا‭ ‬عطشا‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬اليرموك‭ ‬خير‭ ‬شاهد‭ ‬على‭ ‬سمو‭ ‬نفوسهم‭. ‬فقد‭ ‬أخرج‭ ‬أبو‭ ‬نعيم‭ ‬أن‭ ‬الحارث‭ ‬بن‭ ‬هشام،‭ ‬وعكرمة‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬جهل،‭ ‬وعيَّاش‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬ربيعة‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهم‭) ‬جُرحوا‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬اليرموك‭ ‬–فأسرع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الصحابة‭ ‬بحملهم‭ ‬إلى‭ ‬الخيمة‭ ‬المخصصة‭ ‬لعلاج‭ ‬الجرحى–‭ ‬فشعروا‭ ‬بالعطش‭ ‬الشديد،‭ ‬فطلب‭ ‬الحارسُ‭ ‬شربةَ‭ ‬ماءٍ‭ ‬ليروي‭ ‬بها‭ ‬عطشه‭ ‬الشديد،‭ ‬فلما‭ ‬جيئ‭ ‬بها،‭ ‬نظر‭ ‬إليه‭ ‬عكرمةُ،‭ ‬فقال‭ ‬الحارس‭ ‬للساقي‭: ‬اذهب‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬عكرمة،‭ ‬فلما‭ ‬أخذها‭ ‬عكرمة،‭ ‬نظر‭ ‬إليه‭ ‬عيَّاشُ،‭ ‬فقال‭ ‬عكرمةُ‭: ‬اذهب‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬عيَّاش،‭ ‬فلما‭ ‬وصل‭ ‬إلي‭ ‬عيَّاش‭ ‬وجده‭ ‬قد‭ ‬مات‭!!‬،‭ ‬فرجع‭ ‬بشربة‭ ‬الماء‭ ‬للحارث‭ ‬فوجده‭ ‬قد‭ ‬مات،‭ ‬فذهب‭ ‬إلى‭ ‬عكرمة‭ ‬فوجده‭ ‬قد‭ ‬مات‭!! ‬وهكذا‭ ‬رفض‭ ‬كلُّ‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يشرب،‭ ‬وآثر‭ ‬غيرَه‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬اعتقادا‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬أخيه‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬شربة‭ ‬الماء‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭.. ‬وصدق‭ ‬الله‭ ‬العظيم‭ ‬القائل‭: ‬‮«‬وَالَّذِينَ‭ ‬تَبَوَّءُوا‭ ‬الدَّارَ‭ ‬وَالْإِيمَانَ‭ ‬مِن‭ ‬قَبْلِهِمْ‭ ‬يُحِبُّونَ‭ ‬مَنْ‭ ‬هَاجَرَ‭ ‬إِلَيْهِمْ‭ ‬وَلَا‭ ‬يَجِدُونَ‭ ‬فِي‭ ‬صُدُورِهِمْ‭ ‬حَاجَةً‭ ‬مِّمَّا‭ ‬أُوتُوا‭ ‬وَيُؤْثِرُونَ‭ ‬عَلَى‭ ‬أَنفُسِهِمْ‭ ‬وَلَوْ‭ ‬كَانَ‭ ‬بِهِمْ‭ ‬خَصَاصَةٌ‭ ‬وَمَن‭ ‬يُوقَ‭ ‬شُحَّ‭ ‬نَفْسِهِ‭ ‬فَأُولَٰئِكَ‭ ‬هُمُ‭ ‬الْمُفْلِحُونَ‮»‬‭(‬الحشر‭:‬9‭).‬‮‬ وقد‭ ‬جعل‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬مِن‭ ‬البرِّ‭ ‬بعد‭ ‬الإيمان‭ ‬بالله‭ ‬واليوم‭ ‬الآخر‭ ‬والملائكة‭ ‬والكتب‭ ‬والأنبياء،‭ ‬إطعام‭ ‬الطَّعام‭ ‬للمحتاجين،‭ ‬وبذله‭ ‬للفقراء‭ ‬والضعفاء‭ ‬مع‭ ‬حبه‭ ‬الشديد‭ ‬والتعلق‭ ‬به‭ ‬والرغبة‭ ‬فيه،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬لَّيْسَ‭ ‬الْبِرَّ‭ ‬أَن‭ ‬تُوَلُّوا‭ ‬وُجُوهَكُمْ‭ ‬قِبَلَ‭ ‬الْمَشْرِقِ‭ ‬وَالْمَغْرِبِ‭ ‬وَلَٰكِنَّ‭ ‬الْبِرَّ‭ ‬مَنْ‭ ‬آمَنَ‭ ‬بِاللَّهِ‭ ‬وَالْيَوْمِ‭ ‬الْآخِرِ‭ ‬وَالْمَلَائِكَةِ‭ ‬وَالْكِتَابِ‭ ‬وَالنَّبِيِّينَ‭ ‬وَآتَى‭ ‬الْمَالَ‭ ‬عَلَى‭ ‬حُبِّهِ‭ ‬ذَوِي‭ ‬الْقُرْبَى‭ ‬وَالْيَتَامَى‭ ‬وَالْمَسَاكِينَ‭ ‬وَابْنَ‭ ‬السَّبِيلِ‭ ‬وَالسَّائِلِينَ‭ ‬وَفِي‭ ‬الرِّقَابِ‭ ‬وَأَقَامَ‭ ‬الصَّلَاةَ‭ ‬وَآتَى‭ ‬الزَّكَاةَ‭ ‬وَالْمُوفُونَ‭ ‬بِعَهْدِهِمْ‭ ‬إِذَا‭ ‬عَاهَدُوا‭ ‬وَالصَّابِرِينَ‭ ‬فِي‭ ‬الْبَأْسَاءِ‭ ‬وَالضَّرَّاءِ‭ ‬وَحِينَ‭ ‬الْبَأْسِ‭ ‬أُولَٰئِكَ‭ ‬الَّذِينَ‭ ‬صَدَقُوا‭ ‬وَأُولَٰئِكَ‭ ‬هُمُ‭ ‬الْمُتَّقُونَ‮»‬‭ (‬البقرة‭: ‬177‭). ‬وقال‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬عَيْنًا‭ ‬يَشْرَبُ‭ ‬بِهَا‭ ‬عِبَادُ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬يُفَجِّرُونَهَا‭ ‬تَفْجِيرً‮‬يُوفُونَ‭ ‬بِالنَّذْرِ‭ ‬وَيَخَافُونَ‭ ‬يَوْمًا‭ ‬كَانَ‭ ‬شَرُّهُ‭ ‬مُسْتَطِيرًا‮‬وَيُطْعِمُونَ‭ ‬الطَّعَامَ‭ ‬عَلَى‭ ‬حُبِّهِ‭ ‬مِسْكِينًا‭ ‬وَيَتِيمًا‭ ‬وَأَسِيرًا‮‬إِنَّمَا‭ ‬نُطْعِمُكُمْ‭ ‬لِوَجْهِ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬لَا‭ ‬نُرِيدُ‭ ‬مِنكُمْ‭ ‬جَزَاءً‭ ‬وَلَا‭ ‬شُكُورًا‭ ‬إِنَّا‭ ‬نَخَافُ‭ ‬مِن‭ ‬رَّبِّنَا‭ ‬يَوْمًا‭ ‬عَبُوسًا‭ ‬قَمْطَرِيرًا‮‬فَوَقَاهُمُ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬شَرَّ‭ ‬ذَٰلِكَ‭ ‬الْيَوْمِ‭ ‬وَلَقَّاهُمْ‭ ‬نَضْرَةً‭ ‬وَسُرُورًا‮‬وَجَزَاهُم‭ ‬بِمَا‭ ‬صَبَرُوا‭ ‬جَنَّةً‭ ‬وَحَرِيرًا‮»‬‭ (‬الإنسان‭:‬6‭-‬12‭).‬ فهلا‭ ‬تعلمنا‭ ‬الدرس‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأماجد‭ ‬الذين‭ ‬خلدهم‭ ‬التاريخ‭ ‬بشريف‭ ‬الأقلام،‭ ‬وجليل‭ ‬المداد،‭ ‬في‭ ‬سجلات‭ ‬الخالدين‭.. ‬وبالله‭ ‬تعالى‭ ‬التوفيق‭.‬ عضو‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للشؤون‭ ‬الإسلامية‭ - ‬مصر

مشاركة :