السعادة والتسامح.. المسافة بين «الحلمين» ليست بعيدة

  • 3/2/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

بناء السعادة والتسامح.. تحدٍ جديد في مسيرة وطن، لا تعترف قيادته بكلمة المستحيل، وتطلق الخيال لاستشراف المستقبل، وتحقيق الأحلام المختلف عليها، متجاوزةً عتبات طيب العيش والرفاهية والخير البشري والأهداف المحققة على هذه الأرض السعيدة دولة الإمارات؛ التي خصصت حكومتها مؤخراً وزيرتين للتسامح والسعادة. المسافة بين الحلمين ليست بعيدة، إذ تربطهما جسور أوثق من حرف السين، فالمجتمع السعيد هو الأكثر تسامحاً؛ ويمكن تعديل العبارة: المجتمع المتقبّل للآخر؛ هو قبل ذلك متصالح مع الذات؛ لذا يتعايش مع الجميع، ولا يضيق صدره بأحد: السماح في اللسان العربي عطاء وجود وكرم. والسمح من الرجال من كان سباقاً إلى فعل الخير داعياً إليه، ذلك أن السماح رباح، أي مصدر لراحة النفس والعقل، ومنه اشتق التسامح. فمن تسامح فقد وسع صدره وجود الآخرين جميعهم حسب سعيد بنكراد في تقديمه وترجمته لكتاب قول في التسامح للفيلسوف الفرنسي التنويري فولتير. وصفات السعادة، وكذلك التسامح، والأقوال فيهما، جاهزة، أبدعتها أذهان الفلاسفة والمفكرين وكل الحالمين بعالم أفضل، منذ أفلاطون ومحاوراته وجمهوريته، لكن لم تغادر تلك الوصفات أبراجها العاجية؛ لم تنزل منها إلا في حالات استثنائية لتسعى بين البشر؛ فالبعض اعتبر السعادة لغزاً، ومفهوماً يرتبط بكل شيء، ومهمة مستحيلة لها امتدادات مع المجتمع؛ وانسجام الأهداف الفردية والرغبات، كما يوضح نيكولاس وايت، صاحب كتاب السعادة موجز تاريخي، مشيراً إلى أنها تثير ارتباطات مع الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية، وكذلك حصول المرء على ما يريد من أشياء تتجاوز الاحتياجات الضرورية، ويصل وايت إلى أنه لا وجود لمعنى عام يمكن أن نسترشد به في كل موقف، إننا يمكن أن نحيا السعادة، ونتصرف بما يكفل لنا تحقيقها من دون أن نكون موجهين بمفهوم عام للسعادة، ينطبق على كل حالة أو موقف. كتب كثيرة طاردت معاني للسعادة ورسمت دروبها، لكنها اعتنت أكثر بالنواة الأولى، بالفرد، وكيفية برمجته لتحقيق شخصية راضية، ذات مزاج إيجابي، تودع القلق، ولا تخشى المستقبل، كما الحال في سيكولوجية السعادة لمايكل أرجايل الذي يركز على العامل الأبرز وهو الرضا الشامل، ويسعى إلى قياس ذلك، عبر مؤشرات العمل والزواج والصحة، متنقلاً بين كثير من الدول واهتمامات أفرادها المختلفة؛ إذ قد تتقدم الصحة على العمل في منطقة ما، بينما يعلي آخرون من شأن الحب والزواج. تدريب اختلافاتنا البسيطة في فصل قبل نهاية قول في التسامح بقليل؛ يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير، في صلاة لله حافلة بالأمنيات والرجاء: لن أتوجه إذن إلى الناس، ولكن لك أنت.. فأنت لم تعطنا قلباً لكي نكره بعضنا بعضاً، وأيادي لكي نذبح بعضنا بعضاً، اجعلنا قادرين على التعاون في ما بيننا لنكون قادرين على تحمل عبء حياة قاسية وعرضية، وأن تجعل اختلافاتنا البسيطة في اللباس الذي يغطي أجسادنا الغبية، واختلاف كل لغاتنا الناقصة وكل ممارستنا البليدة.. أطلب منك ألا تجعل كل هذه التمايزات الدقيقة علامات على الحقد والاضطهاد؛ اجعل الذين يشعلون الشموع في واضحة النهار من أجل الاحتفاء بجلالك يتحملون أولئك الذين يكتفون بنور شمسك، والذين يلبسون لباساً أبيض لكي يدعوا الناس إلى حبك، لا يكرهون الذين يقولون الشيء ذاته، وهم يرتدون لباساً أسود من صوف.. فليتذكر جميع الناس أنهم أخوة، وليكرهوا التسلط على الأرواح، كما يكرهون السارقين الذين يأخذون بالقوة ثمار العمل الدؤوب للآخرين وصنعتهم. فإذا كانت آفات الحرب لا رادّ لها، فيجب ألا نكره بعضنا بعضاً، وألا يمزق بعضنا بعضاً في حضن السلم، ولنستعمل لحظة من وعينا، لكي يباركك كل الناس بكل اللغات. من مقولة إن السعادة ليست شيئاً يجده المرء، بل شيء يبنيه ويتدرب عليه؛ تنطلق سلسلة دفاتر تمارين صغيرة أعدّها كتاب يتمتعون بخبرة واسعة، ويمارسون نشاطات ترتبط مباشرة بالموضوعات التي يكتبون عنها، ومن بينهم الكندية كريستين ميشو التي تعرض تجربتها لتحقيق السعادة والنجاح في الجزء الثامن عشر من تلك السلسلة الخفيفة، ومن المطبخ ووصفة حلوة تنطلق الكاتبة: هل تعرف وصفة السعادة والنجاح؟ لربما ذقت طعمها من قبل، أليس كذلك؟ لديك إذاً فكرة عن المكونات الموجودة فيها.. لكنك تعتبر أن الأمر نسبي! فكل من جرّب الطهي من قبل يعرف جيداً أن الوصفة نفسها لا تعطي المذاق نفسه دائماً، إذ يعتمد الأمر على الشخص الذي حضّرها. فلنفترض أنك تعشق قالب الحلوى بالشوكولاتة، على الأرجح أنك تذوقته مرات عدة من قبل، لكن من المحتمل جداً أن تكون وصفته قد اختلفت بين مرة وأخرى. فكل واحدة منها أنتجت قالباً رائع المذاق، لكن مع اختلافات بسيطة (أو كبيرة) أحياناً في المكونات، أو المقادير، أو طريقة التحضير. وكذلك هي حال الحياة! وهذا على الأرجح ما يجعلها جميلة ومثيرة. فعدة طرق تؤدي إلى الوجهة نفسها، تماماً كما تجذب أساليب وحيل عدة السعادة والنجاح إلى الإنسان. والمهم هنا هو أن تكتشف هذه الأساليب والحيل وتضعها قيد الاختبار قبل أن تركب وصفتك الخاصة. ومن أجل البحث عن الوصفة الخاصة بكل فرد، تضع الكاتبة عدداً من التمارين (الصغيرة أيضاً)، داعية القارئ إلى الإجابة عنها، منطلقة من ضرورة البدء بتفريغ فائض السلبية، واعتماد الخطاب الإيجابي، وتحديد الأولويات، وأهمية الامتنان، وتختتم بوصفة لتحضير حلوى لذيذة بالشوكولاتة، وكما بدأت الكتاب بوصفة، أنهته كذلك لتبرز أن الحياة من السهولة بمكان أن تكون منها قوالب جميلة ولذيذة ورائعة. حوار وفي الدفتر العشرين من السلسلة ذاتها، يقدم الأخصائي النفسي إيف ألكسندر تالمان تدريباً على السعادة، مستهلاً بمقولة: لسوء الحظ لا تعطي المدارس دروساً في السعادة بعد، ولكن لحسن الحظ أن هناك دروساً تعويضية، مثل تلك التي ستجدها في هذا الدفتر الصغير. هيا إذاً استعد لتنمي سعادتك.. وتصبح صانع سعادة!. وأهمية تلك السلسلة أنها تشارك القارئ، تحاوره، وتخرجه من مجرد التلقي، إذ لا تلقي وصفات جاهزة، ولذا تدعوه إلى الكتابة، والتعبير بصراحة مثلاً عن لائحة سعادته، والإجابة عن أسئلة عدة لا تهدأ طوال السلسلة. ويؤكد ألكسندر تالمان أن السعادة الحقيقية لا علاقة لها بالنظرة التجارية المقيدة التي تحاول الإعلانات أن تفرضها علينا، كلا فشراؤك سيارة جديدة أو معطفاً جديداً أو هاتفاً جوالاً من أحدث طراز لن يزيد سعادتك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تقليلك للتجاعيد في وجهك، أو حصولك على ترقية في عملك أو تمتعك بصحة أفضل. ويلفت إلى أنه في عام 1940، كانت درجة الرضا العام في الحياة لدى الأميركيين تبلغ 7.5، في وقت لم تكن ثلث الأسر تملك مياهاً جارية، أو مراحيض مغلقة، أو دشاً للاستحمام، وكان نصفها فقط يملك نظام تدفئة مركزياً. أما اليوم ورغم الغسالات والشاشات المسطحة وأفران الميكرويف والكمبيوتر، فمعدل الرضا لدى الأميركيين يبلغ 7.2، أي أقل؛ رغم الثراء والمال فالكثير من الأغنياء ليسوا سوى حراس لممتلكاتهم، حسب مقولة فرانك لويد رايت. ومن المقولات التي يسجلها هذا الدفتر الصغير: ليست السعادة شيئاً يجده الإنسان، بل شيء يصنعه. وهي لا تتوقف على ما ينقصنا، بل على الطريقة التي نستخدم فيها ما نملكه (آرنو دي جاردان)، النشاط أمر ضروري للسعادة (آرثر شوبنهاور)، لا تأتي السعادة تلقائياً... وهي تعتمد علينا وحدنا. فالمرء لا يصبح سعيداً بين ليلة وضحاها، بل بالعمل الدؤوب والمتابعة اليومية. إن السعادة هي شيء يبنى، وهذا أمر يتطلب وقتاً وجهداً (لوكا وفرانشسكو كافالي سفورزا)، إن المسألة الوحيدة التي يجب أن تشغل بال الإنسان هي أن يعيش سعيداً (فولتير). وإن السعادة هي بناء يتغذى من الأفعال والقرارات (كريستوف أندريه). حياة مشتركة قول في التسامح الصادر العام الماضي عن المركز الثقافي العربي؛ كتاب يأتي من بعيد ربما، لكن في لحظة زمانية مشابهة للحظة التي يحياها العالم اليوم، للفيلسوف الفرنسي فولتير، وترجمة المغربي سعيد بنكراد الذي يقول: صدر هذا الكتاب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهو مرافعة رائعة من أجل التسامح والتآخي ونبذ العنف والعنصرية، كما يؤكد فولتير ذلك فموضوعه هو التسامح وهو نداء موجه إلى إنسانية من يحكمون ونداء إلى الحذر. إنني ألقي ببذرة يمكن في يوم من الأيام أن تعطي نبتة. ويعلق بنكراد على مقولة فولتير: وقد نكون نحن، في عالمنا الإسلامي، أول وآخر من يلتقط هذه النبتة ويعتني بها، فقد تعطي ثماراً تجعل حضارتنا قادرة على احتضان كل أبنائها باختلاف دياناتهم ومذاهبهم وطوائفهم. تتشابه الفترة التي كتب فيها قول في التسامح مع هذه اللحظة، إذ ألّفه فولتير إثر حادثة مقتل جان كالاس، وهو مواطن فرنسي من أتباع المذهب البروتستانتي. بعد اتهامه هو وكل أفراد عائلته ظلماً بقتل ابنه الذي كان يود - حسب القضاة والمتعصبين من سكان تولوز الكاثوليك - الارتداد عن المذهب البروتستانتي واعتناق الكاثوليكية، وحكم على الأب بالموت وشردت العائلة ونفي الابن، وكان لهذا الكتاب تأثير كبير في الأوساط الفرنسية، وأعادت المحكمة العليا في باريس النظر ـ بأمر من الملك ـ في القضية، وبرأت العائلة وأعادت الاعتبار للأب الذي مات بالتعذيب. وانتصر العقل في باريس على التعصب، رغم قوته، في حين ينتصر التعصب دائماً على العقل في الأقاليم. لقد كُتب (قول في التسامح) في مرحلة كانت فيها أوروبا قد شبعت من الحروب الدينية، ووصلت إلى حد لم يعد معه ممكناً الاستمرار فيها خوفاً من فناء الأمة ودمارها.. كل ما في هذا الكتاب تصوير لحالتنا. إنه يذكرنا، أننا مثلهم في القرن الثامن عشر، لا يمكن أن نستمر في الوجود إلا بالتسامح. ويبرز ضرورة الحياة المشتركة، ويركز على قيم المحبة والتسامح، معتبراً أنها ضرورة حياة وليست خياراً؛ إذ لن يلغي أحد أحداً من الوجود: فإما الصراع والاقتتال والكراهيات إلى الأبد، وإما نشر المحبة بين الناس وضمان حياة مشتركة تتسع لكل الآراء، بما فيها قدرتها على استيعاب ممكنات التميز والاختلاف في الطقوس وشكل العبادات. إن المعبود واحد لا شيء غيره، وهو وحده الذي يعرف كيف يميز أصفياءه من المؤمنين عن الضالين منهم. إن التعصب يقتات من الجهل والصراخ، ويغذيه السلوك الأهوج للحشود المسعورة. التسامح والكلام لبنكراد أيضاً تربية وتنشئة على التعدد والتنوع في النفوس وفي الوجود، ومع ذلك؛ فإن التسامح لا يعني القبول بكل الآراء بما فيها تلك الداعية إلى العنصرية والكراهية والأنانية، إنه على العكس من ذلك حماية من كل تلك الأمراض، فهو مبني على مبادئ القانون الإنساني الذي يعترف بحق الناس في التعدد في العقائد والأفكار والرؤى وأنماط الوجود على الأرض، دون أن يقود ذلك إلى المس بكرامة الناس وحريتهم، أو التضييق على قناعاتهم الدينية أو الأيديولوجية. ويرى الفيلسوف فولتير في كتابه أن الدين جاء من أجل إسعادنا في هذه الحياة وفي الآخرة، فما شرط السعادة في الحياة الآتية؟ هو أن يكون المرء عادلاً. وماذا على المرء القيام به لكي يكون عادلاً؟ هو أن يكون متسامحاً.

مشاركة :