رغم كثرة المؤتمرات وما يصدر عنها من توصيات فهي لن تجدي نفعاً ما لم تجد طريقها إلى التنفيذ على أرض الواقع وأهمها تطوير التعليم في كل مراحله، من يستمع إلى ما يدور من نقاشات في المجالس ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي يجد أن كل فريق يلقي باللوم على الفريق الآخر، ويرى أنه المسؤول عن كل على ما تعانيه المنطقة من أزمات وإرهاب وتحديات وتدني خدمات، وبعضهم يعزو كل التحديات إلى قوى خارجية تخطط وتنفذ، لكن قلما نحاول الخروج عن النمط السائد وهو إلقاء اللوم على غيرنا إلى التفكير والبحث عن الأسباب التى من صنع أيدينا وبسبب ثقافتنا، وأعزو غياب النقد إلى عدم وجود التفكير الناقد في تعليمنا وتركيزنا على حشو أدمغة الطلبة بكم هائل من المعلومات أصبحت متوافرة داخل ما يحملونه من أجهزة إلكترونية يستطيعون من خلالها وبحركة بسيطة من أصابعهم الوصول إليها بسرعة ويسر، وقد لا يحتاجون لكثير من تلك المعلومات في حياتهم الخاصة أو العامة، بل وأكثرها من مهام المختصين.. وأخطر ما في التعليم هو حين نقول لهم إن هذا وحده هو الشيء الصحيح وما عداه لا يعتد به، وخصوصاً في مواد الدين التي أجمعت الكثير من المراجع الدينية في العالم العربي والإسلامي على ضرورة مراجعتها، ومنها الأزهر الشريف، ودار الإفتاء الأردنية، ورابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقهاء الإسلامي، وآخرها ما صدر قبل أسابيع عن إعلان مراكش الذي طالب بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية وتنقيتها من كل ما يدعو إلى التطرف والكراهية، أو قد يستغل كمنهج خفي من بعض المعلمين لتأجيج الصراع والعداوة ضد الآخر المختلف، ما قد يكون سبباً في تغذية الإرهاب أو التضييق على الأقليات الدينية في الغرب أو الشرق بدلاً من حمايتها. ومع يقيني أن المدارس لن تستطيع وحدها إصلاح الخلل الذي أصاب الحياة في العالم الإسلامي، إلا أنها من أهم وسائل محاربة الغلو الذي أهلك من قبلنا وسيقضي على أهم مقومات قوتنا، فمن المدارس تخرّج الدعاة والأئمة والمعلمون والقادة، وهي التي لقنت الأجيال على مدى أعوام كثيرة كماً هائلاً من المعلومات مفادها أننا وحدنا من يملك الحقيقة.. المدارس يمكن أن تكون من أهم أسباب التعايش السلمي والتعاون والتسامح كما هي رسالتها في كثير من الدول التي تتعدد فيها الأعراق والأديان والمذاهب مثل الهند على سبيل المثال. ورغم كثرة المؤتمرات وما يصدر عنها من توصيات فهي لن تجدي نفعاً ما لم تجد طريقها إلى التنفيذ على أرض الواقع وأهمها تطوير التعليم في كل مراحله، وأن يكون التغيير مبنياً على متطلبات العصر وعلى أسس علمية حتى يقود التحول الاجتماعي والاقتصادي ويستفيد من هذا الكم الهائل من المعارف المتجددة.. وعليه أسوق الملاحظات الآتية: أولاً: اختصار عدد المواد ومحتواها لإتاحة وقت أكثر للممارسة والتطبيق، وإشراك الطالب وإعطائه وقتاً أكثر للحوار والتفكير الناقد وهو عنصر مهم تهتم به الدول المتقدمة وتضعه في مقدمة أهداف التعليم، حيث يسهم العقل الناقد في حماية الطالب من سهولة جره إلى محاضن الإرهاب والمخدرات وغيرها، إضافة إلى تركيز التعليم على مهارة الاتصال المطلوبة في الحياة الخاصة والعامة، وبناء شخصية القائد، وتأصيل مبدأ التعاون والعمل بروح الفريق، والتركيز على زرع عادات مفيدة كالقراءة والرياضة وممارسة القيم النبيلة التي تشترك فيها جميع الأديان السماوية، وقد أكد عليها القرآن الكريم والسنة النبوية، وموجودة ضمن المناهج الدراسية لكنها وجدت كمعلومة فقط، تحفظ استعداداً للاختبار وليست سلوكاً يمارسه الطالب في المدرسة، فالمدارس لم تستطع أن تنتقل من التلقين إلى التطبيق، لكثرة عدد المواد ومحتوى المنهج، حتى أصبح المعلم المتميز في سباق مع الوقت لإنهاء المنهج وضمان نجاح الطالب في آخر العام. ثانياً: التركيز على جانب الأخلاق هو ما يعطي نتائج باهرة لخلق مجتمع مسلم تسوده الرحمة لكل سكان الكرة الأرضية، وليس للمسلمين فقط، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسله الله رحمة للعالمين، ويختصر ذلك قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقد دعت الأمم المتحدة قبل سنوات إلى عشر قيم هي: "التسامح والحب والرحمة والطموح والإحساس بالآخرين والإنصاف والمبادرة والتعاون والاتقان والبساطة"، وهذه قيم تقرب المسلمين من غيرهم ليعيشوا بسلام فيما بينهم ومع غيرهم، وهو مبدأ إسلامي أصيل أسس له رسول الله صلى الله عليه وسلم فور دخوله المدينة المنورة. ثالثاً: علينا ألا نضيع الوقت ولنبدأ من اليوم، بشرط ألا نستعجل النتائج، فالمشروعات الكبيرة التي لها علاقة ببناء الإنسان وتقويم سلوكه وتهذيب أخلاقه بحاجة إلى جهود كبيرة وصبر ومثابرة، بل وبحاجة إلى عمر جيل كامل قد يمتد سنوات حتى نرى النتائج.. "سئل حكيم صيني: ما هو أفضل وقت لزراعة شجرة؟ فقال: يوجد وقتان؛ الأول والأفضل قبل عشرين عاماً، والثاني الآن"، فالوقت يمضي سريعاً والتحديات تزداد تعقيداً ولا حلّ إلا بتعليم متميز يعالج الخلل ويهيئ المجتمع لمستقبل أفضل. التعليم المتميز هو طوق النجاة وهو الذي سيأخذ بأيدي المسلمين من صراع المذاهب إلى سماحة الدين وفضائه الواسع الذي يستوعب الجميع، والتعليم المتميز هو المؤمل عليه لاجتثاث ما يعاني منه العالم الإسلامي من جمود وغلو وتخلف وبطالة وفقر وتناحر واقتتال. abdullah.sadoun@gmail.com
مشاركة :