من الصعب فهم ما يمكن العثور عليه كامناً في «العطر والفقر وما بينهما» إلا بعد قراءة مجموعة اسماعيل الأمين القصصيّة (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر). بعد هذه القراءة، يبين أن ما بين العطر والفقر أشياء تضرب جذورها في النزوح والهجرة والسفر والترحال والروائح التي تفوح من كل صوب، لكنها روائح لا يستطيع تخيُّلها إلا مَن شمّها وعايشها وغاص فيها. إنّها روائح الأراضي المختلفة، وأصناف الناس في جنوب لبنان وبيروت وباريس ولندن. تلك المدن هي محطات عاش الكاتب فيها، وجاءت قصصه عمّا جرى فيها حقيقيّة، وروائحها فعليّة. وإذا كان باستطاعة كل كاتب أن يروي ويتخيّل ما يريد من حوادث، فإن الكتابة عن الروائح صعبة ما لم تشمها الأنوف قبل القراءة. يكفي أن نقرأ في الصفحة 87، عبارة «فحَّت رائحة المجَدّرَة الحمراء» ليأخذ العنوان دلالته الحقّة. ذاكرة الشفهي لا يكتب بلغة مملوءة تعابير مميزة وألفاظاً ممهورة بطابع أماكن العيش، وكلمات ربما نسيها الزمن الحاضر («السميد»، «يا ميمتي»، «يا مشحّرة»، «حذوة»، «خُشّة»...)، ما خلا من تمرّس بتلك اللغة. ربما هي لغة لا تُفهم ولا وجود لها في المعاجم أو القواميس، لكنها مستمرة في لغة الحياة، ولدى الأمهات والجدات وصبايا الحانات، فهي تجمع بين المعاصرة والموروث الشفوي. في قصص اسماعيل الأمين أصوات متعدّدة تتآلف لتتحدث بصوت واحد، وكأن المجموعة القصصيّة هي قصة متكاملة تلامس حدود الرواية. وعلى رغم أن لكل قصة موضوعها المستقل والمنفصل، إلا أن ثمة خيطاً خفياً يربط تلك القصص، بل يجعلها أقرب إلى المسلسل. وفي منحى آخر، تمسك كتابة إسماعيل الأمين بقارئها، فلا تجرؤ عيناه على مغادرتها إلا بعد الوصول إلى نهايتها، ما يبرهن على تمرّس الكاتب بفن القصة ورويها. وتشي القصص أيضاً بوجهة نظر متعمّقة في أمور عدّة، لكنها تأتي غالباً في صيغ تتلاعب بين «الجِّد واللعب»، فتكون أقرب إلى السخرية المبطنه (مثلاً: « فقهاء هذا الزمن الذين يتكاثرون بأسرع مما ينتشر المطربون»)، لكنها لا تخلو أحياناً من بعض الألم. في القسم الثاني من المجموعة، تبرز المرأة وتصرّفاتها، وكذلك الحياة التي تطغى عليها الحانة ونساء لا يخفن من تسلط الأب الشرقي، وفق وجهة نظر الكاتب. تبدو تلك القصص نوعاً من فن كتابة التاريخ: العدوان الإسرائيلي، المقاومة والمقاومون، الطلاب في لبنان إبّان مرحلة الثمانينات من القرن الماضي، صورة العربي في عين الأجنبي وصورة الأجنبي (بالأحرى الأجنبيات) في عين العربي، وعبثية الشباب في ثمانينات القرن المنصرم وغيرها. في المجموعة نجد «حكايا» مألوفة في التداول الشفهي وهي تتناول الجنسية والعمل والمغامرات، لكن الأمين تولّى صوغها في شاعرية ولطف. وما يثير في تلك المجموعة كذلك، أن ما تقصّه عن أوروبا ولندن، مملوء بكمّ هائل من النساء، كأن المرأة هي المبتغى عند العربي المهاجر للدراسة في الغرب، على رغم أن تلك الظاهرة فيها الكثير من الإدعاء على حساب الواقع. في المقابل، تغيب الجوانب الثقافيّة لذلك الغرب على رغم غناه الفائق بها! ويسخر اسماعيل الأمين من المفاهيم السائدة عن الخمر والمرأة العربيّة و»نظيرتها» في أوروبا، لكنه يفعل ذلك بأدب وشاعرية. ويأتي على ذكر مفاهيم الاستعمار والمستعمر، وهي من المحطّات التي يكون لها وقع خاص على من يعرف الكاتب من قُرب. وعند تلك النقطة يطرح سؤال عن مشروعية الكتابة عن فن ينتجه صديق، خصوصاً مع إمكان أن تختلط المعرفة الآتية من الصداقة مع تلك المحمولة على صهوة النص الفني، ما يعقّد الأمور أحياناً. كذلك يتبادر إلى ذهن القارئ - الصديق، أن تلك المجموعة القصصيّة تشبه نوعاً أدبيّاً يشار إليه بمصطلح «سيرة التخيّل الذاتي». وربما يجدي القول إن ذلك المصطلح كمفهوم وممارسة أدبيّة، نال حيّزاً مهماً في السبعينات من القرن الماضي، مشيراً إلى نوع من السير الذاتيّة التي يصطنعها خيال الكاتب، ما يجعلها تحويلاً خياليّاً لسيرته الذاتيّة المعيشة. وفي «سيرة التخيّل الذاتي»، يستخدم أسلوباً في التعبير يتحدّد عبر اللغة المستخدمة في وصف للأحداث، إضافة إلى المضمون ومدى ارتباطه بوقائع عاشها الكاتب أو أنه كان محايثاً لها. واستطراداً، تصبح الكتابة نوعاً من التفسير المتأخر الذي يسير وفق المنطق الذي يفكر فيه الكاتب لحظة الكتابة، وليس ما دار في ذهنه حين عايش تلك الوقائع. ومع فعل الخيال في الكتابة عن الذات، تنفتح مساحة لنوع من التحليل النفسي على الطريقة التي وصفها سيغموند فرويد. وعند ذلك المفصل، تبرز جمالية مميّزة في تلك الكتابة التي يبدو فيها الكاتب كأنه «يرسم» صورة عن نفسه في مرآة ذاته، حتى لو كانت مرآة مشوّهة!
مشاركة :