«أراني في الماضي وأسرتي على بساط الرمل العتيق، وأنياب الحصير تلتهم أجسادهم، تأكلهم ألسنة البرد، وفوقهم سحابة يأس قاتمة. يشعلون النيران في الحطب فيجلس الجميع حول النار، ينعمون بدفئها ويرمون في داخلها كل آلامهم وأوجاعهم، تغوص أصابعهم داخل النار صوب قطعة خبز تكاد تحترق، فيفشلون في إنقاذها. أهلي وعشيرتي يرتحلون منذ الأزل في صحراء شاسعة جرداء، يعز فيها الماء، يأكل الجوع أحشاءهم، ويعتصر أمعاءهم، أحيانا كثيرة يفترشون الغبراء، هم الفقراء المحاويج، وبرد الصحراء، كلظاها ليس كمثله برد يحرق الأجساد التي تلتحف بيوتًا لا تقي إلا قليلًا ولا تزال ليد البرد بصمات على جسدي منذ عهد الطفولة، كل مكان كنا نقطنه كان بمثابة وطن». النص الذي اخترت أن أبدأ به مقتبس من كتاب «تيسرت» للمهندس الدكتور صالح بن علي الهذلول. فعندما فرغت من قراءة الكتاب توقفت قليلًا وقلت في نفسي هذا فن أدبي نفتقده كثيرا في أدبنا العربي الحديث. فمنذ قرأت اعترافات روسو الشهيرة، وأنا أتلمس في ثقافتنا العربية أدب الاعتراف الشجاع، وقد وجدتها في هذا الكتاب، والذي يعكس صورة حية عن حياة إنسان عصامي مكافح يبهرك بعمقه وبساطته وعفويته ومرونته وإنسانيته، سطع نجمه بعد عودته من الولايات التحدة الأمريكية فكان طاقة نقية حرة مشعة. مر صالح في بداياته الأولى بحياة كلها تعب وانكسارات وآمال وآلام ومنعطفات وإخفاقات فقد كان يقتات على فكرة الممكن وإمكانات المستحيل كان حينها يكافح لكي يجد لنفسه موطئ قدم في درج صعوده العلمي. كان ذلك في بداية مراحل صناعة حياته ولكن كل هذا أصبح الآن ماضيًا فقد «صنعها» حسب التعبير الأمريكي و«تيسرت» حسب تعبيره. صالح إنسان حقيقي في وقت يكثر فيه المظهريون يبدو له كل شيء ممكنًا فقد كانت عقليته مهيأة لأن يكون شيئًا لأنه كان يمتلك المقدرة على الإبداع أساسًا. أن تكون نفسك - كما يقول رالف أمرسون - في عالم يحاول بكل قوته أن يجعل منك شخصًا آخر هو النجاح بعينه. فقد كان صالح واقعيًا ومثاليًا صفتين وصفه بهما كل من عرفه هذا المضمون التعريفي المثالية / الواقعية انعكست على مختلف أدواره ومواقفه وتحركاته وتحولاته وتجاربه، وإنجازاته والتي نقرأ اليوم فصولها في هذا الكتاب. والتي يختزلها عمرو العامري في هذا التوصيف المنهجي الفريد: «شحيحة هي كتب السيرة الذاتية أو المذكرات الشخصية في مجتمعنا، وإن كتبت فهي غالبًا تروي قصص النجاحات والمناصب والزهو بما أنجز، متجاوزة محطات المعاناة وحضور المكان والعائلة، وسيرورة المجتمع. الدكتور الهذلول كسر هذه القاعدة، وكتب لنا سيرة طفل معدم، وإنسان خرج من بيوت الطين وقسوة الفقر، ومدارس الرمل والحصير، والمشي، حافيًا، لكنه نحت عبر الصخر وبأصابع دامية، وعبر مسيرة تعلم طويلة ومستدامة، حتى وصل الجامعة كلية الهندسة طالبًا، ثم خريجًا، فمعيدًا، ومبتعثًا، حتى عاد حاملًا شهادة الدكتوراه من أحد أرقى جامعات العالم، معهد «إم آي تي» بالولايات المتحدة». ولكن دعني أبدأ بما أعرف، أو أعتقد أنني أعرفه عن المهندس الدكتور صالح بن علي الهذلول لقد أوجد بيئة خصبة ملائمة فأنبت فيها أفكاره، فأظهر براعة فائقة فقد كان يوظف أفكاره لخلق عالمه الذي يريد. فإذا كنا ألفنا أن نفكر في نطاق ما أو نبني أسوارًا حول أفكارنا، وتصوراتنا فإن الدكتور صالح يمتلك المقدرة في توسيع مداركه واجتذاب كل شيء نحوه، فلم يكن ينظر إلى نفسه ضمن نطاق ثقافة المكانة أو مظهريات الوجاهة أو معايير فئوية أو اعتبارية لكنه كان ممسكًا بمفاصل الوعي. وهذا الكتاب يكشف بعمق الكيفية التي يفكر بها، والحياة التي يعيشها والخيط الناظم لتجاربه وخبراته المتنوعة. وإن كنت في هذا لا أقدم المهندس الدكتور صالح الهذلول أو التعريف به؛ فهذا المفكر الكبير لا يحتاج إلى تقديم أو إعادة تعريف فقد قدمته الحياة بما يكفي، قدمته البدائع ببساطتها ومثاليتها وإنسانيتها وفطرتها، ولونها وطعمها ورائحتها ونكهتها. وقدمته جامعة هارفرد بعمقها وشهرتها وعراقتها. وقدمه معهد ماساتشوسيس للتكنولوجيا «إم آي تي mit» بتقنياته ومنهجياته العلمية الحديثة وأساليبه التكنولوجية المتطورة. وقدمته العمارة بأشكالها وتقاليدها وألوانها وتفاصيلها، وقدمته دراساته العلمية وخبراته المعرفية وتجاربه المختلفة، وقدمته المنصات العلمية والمؤتمرات والمحافل الدولية والتي نال على إثرها الشهادات والأوسمة والألقاب والقلائد والجوائز، وقبل ذلك قدمته إنسانيته التي طبعت مجمل حياته، فقد كان نموذجًا للشخصية الواعية البصيرة. فالمهندس الدكتور صالح الهذلول حاصل على البكالوريوس في العمارة من جامعة الملك سعود في الرياض عام 1972م، وماجستير العمارة في التصميم العمراني من جامعة هارفرد عام 1975م، والدكتوراه في العمارة والدراسات البيئية من معهد ماستسوسيس للتقنية إم آي تي عام 1981م. يقول الدكتور أليكس ياتاكوس: «يمكن أن يسلب من الإنسان كل شيء إلا آخر الحريات الإنسانية: حريته في اختيار توجهه الذهني، وحريته في اختيار طريقه» وهذا ما كان مع المهندس الدكتور صالح الهذلول حين اختار معقل العلم والتكنولوجيا على مستوى العالم «هارفرد وإم آي تي MIT». وفي هذا الكتاب تبدو لك رؤية المهندس الدكتور صالح بن علي الهذلول الفكرية والمعرفية ومزاياه الخلاقة وتفكيره المنطقي وحقيقته البسيطة ومنظوره العلمي والمنهجي المحايد والتي تأتي ضمن مشروعه الحضاري، ولذلك فكل كتاباته ومحاضراته وخطبه وأقواله تطبيق عملي لمشروعه الحضاري والذي يتميز بعمق معرفي. ومن هذا المنطلق يعتبر كتاب «تيسرت» صورة عاكسة لشخصية المهندس الدكتور صالح الهذلول فالكتاب في تصوري دروس في بناء الذات، وفي أن يكون كما هو في مختلف أحواله وظروفه. لذلك لا يجد ضيرًا في أن يقول إنه درس في مدارس النصر الأهلية الليلية في البطحاء، أو في جامعة هارفرد، أو في إم آي تي للتكنولوجيا، فالبساطة والتواضع تتنافى عنده مع الإحساس الوهمي بالذات، فهو دائمًا ما يحاول إعادة تعريف نفسه بأنه شخصية عادية، «لا تجد في نفسها قيمة مضافة على الآخرين، وهي قيم تمنح مصداقيتها في الذات الإنسانية نتيجة التصالح مع الذات». ولكن تظل «تيسرت» على حد وصف المهندس الدكتور مشاري النعيم «حكاية تعبر عن الهمة العالية للمهندس الدكتور صالح الهذلول، الذي قدم من البدائع إلى الرياض معدمًا، وتسلق درجات المجد، ليترك وراءه أثرًا عميقًا على أجيال كثيرة، ستأتي من بعد، وستتعلم من سيرته».
مشاركة :