تحقيق إخباري: صناعة الفخار في سوريا تزدهر من جديد بعد أن كانت مهددة بالانقراض

  • 7/26/2023
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يجلس محمد سالم الفاخوري البالغ من العمر (60 عاما) على كرسي حديدي وأمامه دولاب مربوط بعجلة دائرية يحركها بقدمه، وبين يديه عجينة من الصلصال تزن 5 كيلو غرامات، ليكون منها إبريقا من الماء الفخاري بعد وقت قصير من العمل، وعليها بعض النقوش والزخارف التي ابتكرها لتضفي على الإبريق رونقا خاصا. والفاخوري الذي اكتسب لقبه من هذه المهنة، يعمل بها منذ أكثر من 50 عاما في حرفة صناعة الفخار، وهي مهنة والده وجده وأغلب عائلته، ولعشقه لهذه المهنة تمكن من الإبداع فيها واستطاع أن يعرف أسرارها وأن يترك بصمة واضحة في هذه المهنة العريقة التي يعود تاريخها إلى زمن بعيد. وقال الحرفي السوري الفاخوري لوكالة أنباء ((شينخوا)) "حرفتي التي أعشقها هي صناعة الفخار وقد امتهنت هذه الحرفة منذ كنت في الصف الثاني الابتدائي وورثتها عن أبي وجدي"، مبينا أن الشخص الذي يريد أن يعمل في مهنة الفخار يجب أن يحب هذه المهنة، مؤكدا أنه من الصعب جدا على أي شخص أن يتعلمها دون أن يحبها. وتابع الرجل الستيني بالعمر، وهو يضع يده اليمنى داخل القطعة الفخارية التي بدأ بتشكيلها والأخرى على العجينة من الخارج، يقول "الحرفة فيها تعب كثير وتحتاج إلى طولة بال وفن، ولكن عندما تنتهي من العمل، وتشاهد أنك أنجزت عملا مصنوعا من الفخار تشعر بالفرح، وتشاهد الأرض وقد امتلأت بمشغولات فخارية"، واصفا شعوره بأنه "إحساس رائع، لأنك صنعت من لا شيء، شيء ومن التراب صنعت أواني منزلية وصنعت مزهريات وقطع صمدية". وأضاف الفاخوري أن "عمل الفخار له مجال واسع ويحتاج إلى صبر ورؤية جمالية كي يتمكن من صناعة أشياء فخارية جميلة"، مؤكدا أنه من الوهلة الأولى ترى أن مهنة صناعة الفخار بسيطة، ولكن في الحقيقة هي مهنة دقيقة وحساسة كثيرا. وأوضح أن هذه المهنة تتطلب الكثير من الأشياء أهمها معرفة الجو، وكيفية التعامل مع القطعة عندما تنتج، مبينا أن الفواخرجي (نسبة إلى من يعمل في الفخار) يجب أن يحسب حساب نسمة الهواء فهي، حسب رأيه قادرة على تخريب كل ما صنعه الحرفي، لأن قطعة الفخار إذا ضربها الهواء من جهة دون أخرى تتشقق ويذهب الشغل سدى. وتابع "يجب أن تراعى قطعة الفخار عندما تخرج من فرن الشوي فهذه الصناعة تحتاج كما قلنا إلى طولة بال ومهارة عالية حتى تصل إلى المستهلك"، مؤكدا أن الممارسة هي التي تعطي الحرفي الخبرة العالية وربما كما يقال "ممارس غلب فارس". ورأى الرجل الستيني أن الظروف المعيشية الصعبة التي تعيشها البلاد حاليا، إضافة إلى التقنين للتيار الكهربائي في عموم المناطق السورية ساهم في إنعاش حرفة الفخار بعد أن بدأ الناس ينسون هذه الحرفة التراثية العريقة. وقال الفاخوري "الناس بدأت تعود للأواني الفخارية أخيرا، وخاصة أواني الشرب مثل ابريق الماء، والجرة الكبيرة لأنها تحتفظ بالبرودة لفترة طويلة خاصة في غياب التيار الكهربائي لساعات طويلة قد تصل إلى 5 أو 6 ساعات قطع وساعة وصل". وأضاف "إضافة لما سبق فإن الفخار شيء صحي للإنسان، ويساهم بتنقية الماء وبإعادة الأوكسجين له، وهذا الكلام مثبت علميا والماء هو عبارة عن روح تموت عندما توضع في الأواني البلاستيكية والحديدية وتعيش بالفخار". وأشار الفاخوري إلى أن حرفة الفخار حاليا باتت مكلفة وغالية لأن كلف الإنتاج أصبحت عالية جدا، ، مؤكدا أنه من الصعب رفع أسعار الأواني الفخارية لتوازي كلف الإنتاج، لأن الناس تنظر إلى هذه الصناعة على أنها تعتمد على التراب، ولا تحتاج إلى رأس مال كبير، مبينا أن المواد الأولية أصبحت غالية جدا وخاصة التراب. وقال"صحيح أن من يعمل بهذه الحرفة اليوم قلائل جدا، والعدد لا يتجاوز عدد أصابع اليد"، مشيرا إلى أنه قبل حوالي 50 عاما في حمص (وسط سوريا) وحدها كان هناك حوالي 60 حرفيا يعملون في الفخار، أما اليوم بقي منهم اثنان فقط كمعلم دولاب وعملهم متقطع. وأكد الفاخوري أن الإنتاج يسوق بالسوق المحلية، مبينا أن بائعي الزهور يطلبون أواني فخارية كزينة للورود، وأحيانا بعض المطاعم يطلبون أواني فخارية لتقديم الطعام، وأحيانا تصنع قطع فخارية للديكور. وشرح الفاخوري بإسهاب سير العمل قائلا "ننقي التربة من الشوائب ونطحنها ونهزها بالغربال، ثم نرويها بالماء للتخلص من الحصى، فلا يبقى غير الغضار الصالح، وبعدها نعجنه، ونعطيه قساوة محددة من خلال زيادة كميات التراب للغضار". وتابع "يرافق العملية فرك ودعك باليدين، بعد ذلك نترك العجينة تختمر ليوم واحد، ثم نشكل كل قطعة على الدولاب، وآخر المحطات، هي فترة التجفيف الطبيعي، التي تستغرق أياماً في الصيف، وربما شهراً في الشتاء، تختلف مراحل العمل تبعاً لحجم القطعة، وتُنجز بعض القطع الكبيرة على مرحلتين، ليتم تجميعها تالياً". وأشار إلى أن زمن الشيّ يختلف بحسب حجم الفرن وطبيعة الفخار، وغالباً ما يستغرق ثماني ساعات على الأقل، في درجة حرارة تتبدل بحسب نوع الشيّ، النوع البسيط (ويسمى البسكوت) يتطلب 800 درجة مئوية، أما الطناجر التي تُكسى بالزجاج فتتعرض إلى حرارة تتجاوز 1000 درجة. من جانبه، قال الحرفي السوري فكري كركوس (63 عاما)، وهو من مدينة حلب (شمال سوريا) ويقيم حاليا بدمشق، لـ((شينخوا)) "أعمل بهذه الحرفة منذ نعومة أظافري، ورثتها من أبي وجدي، وهي مهنة تراثية وجميلة وفيها فن"، مؤكدا أن الشخص إذا لا يمتلك موهبة لا يمكن أن يبدع فيها، وإذا لا يحبها أيضا لا يمكن أن يصنع أواني فخارية جميلة". وتابع يقول "انا احبتها وصرت أجدد فيها وأدخلت عليها الكثير من الأشياء لتواكب التطور الحاصل حاليا مع المحافظة على روح المهنة التراثية"، مضيفا أن "الفخار له فوائد كثيرة للإنسان وخاصة الماء، والناس بدأت تعي ذلك أخيرا وراحت تنظر إليها على أنه صناعة ذات تاريخ عريق أولا وفيها فائدة صحية للإنسان ثانيا". وأضاف كركوس "بصراحة هذه المهنة مهددة بالانقراض ومن يعمل بها قلائل هذه الأيام، وأنا علمتها لأبني"، مؤكدا أن "الناس بدأت تعود لاستخدام الفخار بعد أن وجدوا أن التيار الكهربائي غير متوفر حاليا بشكل كبير، وراحوا يستخدمون الفخار لتبريد الماء كحل وحيد". وعبرت صفاء علي (43 عاما)، الذي تزامن وجودها في ورشة الفاخوري سالم لشراء بعض الأواني الفخارية، عن سعادتها برؤية الأواني الفخارية الجميلة التي تذكرها بالزمن الجميل للأهل سابقا قبل دخول الأواني المصنعة من الالومنيوم والمعادن الأخرى كأوان للطهي، مؤكدة أن العودة للاستخدام شيء إيجابي وصحي. وقالت صفاء على لوكالة أنباء ((شينخوا)) "هناك عودة لاستخدام الأواني الفخارية لدى الكثير من السوريين، وهذه العودة ربما فرضتها الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد، من نقص في التيار الكهربائي وعدم قدرتنا على استخدام الثلاجة لتبريد الماء، فكان الحل بالعودة إلى الجرة الفخارية وأباريق الماء التي تحتفظ بالبرودة لساعات طويلة"، مؤكدة أن هذه الصحوة وإن جاءت متأخرة لكنها صحيحة. ودعت صفاء علي الناس لاستخدام الأواني الفخارية في الطهي لأنها صحية وتعطي نكهة رائعة للطعام. من جانبه، قال سليم الصالح، وهو صاحب محل لبيع الورود الطبيعية بضواحي العاصمة دمشق، لـ((شينخوا)) "الكثير من الناس يرغبون أن نضع لهم الورود في وعاء مصنوع من الفخار، وهذا الشيء يعطي جمالية خاصة للورد"، مؤكدا أن الأوعية البلاستيكية ضارة وأحيانا تؤذي النباتات، موضحا أن شكل الفخار جميل ويحتفظ بالبرودة لفترة طويلة. وشدد الصالح على أن ورش الفخار بدأت تصنع أشكالا مختلفة وجميلة لوضع الزهور ونباتات الزينة في تلك الأواني الفخارية.

مشاركة :