رغم قناعة فؤاد سالم هاشم مصلح أجهزة المذياع القديمة وسط العاصمة العراقية بغداد، بأن مهنته في طريقها للزوال والانقراض، إلا أنه يؤكد انه لن يتركها مهما كانت الظروف كونه يحبها ويعشقها لدرجة كبيرة وتسري في دمه. ويمارس هاشم مهنة إصلاح أجهزة الراديو القديمة في سوق المدلل التراثي الكائن بأحد أزقة بغداد القديمة، حيث تنتشر الأبنية التراثية القديمة مثل بيت الحكمة والقصر العباسي والمجمع الحكومي في زمن الدولة العثمانية، على الضفة الشرقية من نهر دجلة. وعلى أنغام أغاني خمسينات وستينات القرن الماضي الجميلة التي يسمعها رواد السوق، يواصل هاشم عمله بإصلاح الأجهزة القديمة بكل عزيمة وإصرار من أجل الحفاظ على التراث الشعبي البغدادي العريق. وتعلم هاشم المهنة في شبابه وبدأ بإصلاح أجهزة المذياع في المنطقة التي يسكن فيها، حيث يقوم سكان منطقته بجلب أجهزتهم العاطلة إلى بيته لإصلاحها وهو يشعر بالسرور بعد مشاهدته معالم الفرح والابتهاج على وجوه من قام بإصلاح جهازه، قائلا "كنت أشاهد الفرحة على وجه من أصلحت له المذياع الذي كان أبوه أو جده يستخدمه". وقال هاشم البالغ من العمر (65 سنة) أثناء وقوفه في ورشته المكونة من محلين وتحيط به العشرات من أجهزة المذياع القديمة العاطلة لوكالة أنباء ((شينخوا)) "هذه المهنة أعمل بها منذ 30 سنة وبهذا المكان،وأعمل بإصلاح أجهزة المذياع القديمة، ومولع بها، في البداية كانت هواية ثم تحولت إلى مهنة ولازلت أعمل بإصلاح الأجهزة حتى الأن". وتابع بلهجة صعبة كونه يعاني من آثار جلطة دماغية أصيب بها قبل عدة سنوات "لا أهدف إلى تحقيق الربح، وإنما أهوى هذه المهنة وأجد متعة وراحة نفسية خلال ممارسة العمل بإصلاح أجهزة المذياع "، مضيفا "حبي للتراث جعلني أستمر بهذه المهنة الجميلة". ويسكت للحظات ويرفع رأسه من المذياع القديم الذي يقوم بإصلاحه ويواصل حديثه، قائلا "أنا مولع بهذه المهنة، لكن مع الأسف فإنها مهددة بالانقراض، ولا يوجد أحد يهتم بها، ولا يوجد أحد يشجعنا ولا يدعمنا ولكننا مستمرين بعملنا"،مؤكدا أن من بقي يعمل بهذه المهنة محدود جدا. ويأمل هاشم بدعم الحكومة له وللقلة القليلة الباقية من مصلحي أجهزة المذياع القديمة وقال بنبرة حزينة يعتصرها الألم" أتمنى وجود دعم من الدولة لكي نستمر بعملنا كون هذه المهنة مهنة جميلة". ويفتخر هاشم بلقب "حافظ التراث البغدادي" الذي قدمه له أحد أحفاد شيخ القراء العراقيين الحافظ خليل أسماعيل، كونه من زبائنه وقام بإصلاح أجهزة المذياع القديمة الخاصة بالعائلة، وقام بتعليق هذه القطعة المكتوبة بخط جميل في إحدى زوايا الورشة وبين الأجهزة القديمة. ويتردد على الورشة عشاق أجهزة الراديو القديمة من فنانين وأساتذة جامعات ومن العوائل العريقة التي تمتلك أجهزة مذياع قديمة فضلا عن عشاق هذه الأجهزة ومحبي الاحتفاظ بها كونها تذكرهم بأبائهم وأجدادهم. ويؤكد هاشم أن لديه كل قطع الغيار الأصلية يحتفظ بها بمخزن خاص به، مبينا أنه حصل عليها في ثمانيات القرن الماضي بعد قيام الشركات المختصة باستيراد الأجهزة الحديثة ببيع ممتلكاتها نتيجة انخفاض الطلب على أجهزة الراديو القديمة. ويعد العراق ثاني دولة عربية تفتتح إذاعة رسمية عام 1936 وهي إذاعة بغداد، بعد إذاعة القاهرة التي تأسست عام 1934، حيث شكل بث الإذاعة نقلة نوعية في العراق، وأصبح اقتناء المذياع أحد المتطلبات الرئيسية في ذلك الوقت للحصول على الأخبار والمعلومات وسماع الأغاني والموسيقى. من جانبه قال أنس دارا من سكان محافظة صلاح الدين "لدي مذياع قديم كان والدي يعتز به كونه قديم وكان جدي يستخدمه لاستماع الأخبار والأغاني القديمة والبرامج الإذاعية، لكنه تعطل قبل نحو سنتين وبحثت في محافظتي عن مصلح ولكن لم أجد أي شخص يقوم بإصلاحه ". وأضاف "سمعت من صديق لي بأن هناك من يقوم بإصلاح المذياع في بغداد وفعلا جلبت المذياع إليه وبعد ثلاثة أيام قام بإصلاحه وهو الأن يعمل بشكل جيد"، مبينا أنه يشعر بالارتياح كون المذياع الذي ورثه عن أبيه وجده الأن يعمل بصورة جيدة. وأوضح أن المذياع كان سيبقى قطعة خردة لولا وجود هذا الشخص المختص بإصلاح أجهزة المذياع، لافتا إلى أن إصلاح المذياع مهنة شبه منقرضة بسبب التطور التكنولوجي ورغبة الكثير من الشباب باقتناء الأشياء الحديثة. يذكر أن الكثير من المهن التقليدية في العراق، ومنها إصلاح المذياع القديم تعيش أيامها الأخيرة نتيجة تطوروتقدم الحياة واستخدام التكنولوجيا الحديثة وقد يأتي يوم لا تعرف فيه الأجيال القادمة في المستقبل عن هذه المهن سوى ما يقرأونه في صفحات الكتب من ذكريات جميلة عنها. بدوره قال أبو محمد الكناني (صاحب محل لبيع الانتيكات) في سوق المدلل لـ ((شينخوا)) نقوم في بعض الأحيان بشراء أجهزة الراديو القديمة، الأنجليزية والألمانية والتي لا تعمل ، مبينا أنه يستعين بمصلحي الأجهزة القديمة ومنهم هاشم لإصلاح الأجهزة القديمة ومن ثم بيعها لمحبي اقتناء الانتيكات والأشياء القديمة. وأضاف أن مهنة إصلاح الراديو والمسجل القديم انخفضت وأصبح من يعمل في هذه المهنة أعدادهم قليلة، مشيرا إلى أن من بين الباقين فؤاد سالم هاشم الذي وصفه بأنه خبير بإصلاح أجهزة الراديو القديمة، فضلا عن سيد حميد وهو من أقدم مصلحي المذياع القديم في العراق. وتابع " نحن نستعين بهم (المصلحون القدامى) بإصلاح الأجهزة العاطلة وحتى الأن لا يوجد غيرهم"، مضيفا "في حالة غيابهم فان مهنة إصلاح أجهزة المذياع القديمة قد تنقرض وتنتهي".
مشاركة :