شكلت اجتماعات قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) السودانية التي انعقدت مطلع هذا الأسبوع على مدى يومين في العاصمة المصرية القاهرة، حدثاً جديداً على مستوى الأزمة الخطيرة التي يمر بها السودان، جراء الحرب المستعرة بين قائد المجلس السيادي الجنرال عبد الفتاح البرهان وقائد "قوات الدعم السريع" الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وأسفرت عن مآس كبيرة على الصعيدين الإنساني والاقتصادي في البلاد. فالحرب تمددت من العاصمة الخرطوم لتبلغ إقليم دارفور الشديد الحساسية منذ أعوام عدة، وصولاً إلى إقليم كردفان المضطرب بسبب الحركات الانفصالية. والخطر هو أن يتمدد القتال بين الطرفين إلى أقاليم أخرى، ما سيتسبب مع الوقت في تحلل الدولة السودانية ويدفع قوى جهوية مناطقية ذات توجهات انفصالية إلى التحرك بحرية أكبر، ومحاولة اقتطاع مناطق نفوذ توطئة لمرحلة قادمة قد يصل فيها السودان، إذا لم يتوقف القتال بين الجنرالين بسرعة، إلى حافة الانفجار والتفتت. فالسودان محاط بجوار صعب لم يستقر نهائياً فيه وعي الحدود النهائية الموروثة عن الاستعمار. كما أنه في مرحلة الوهن التي يمر بها راهناً، هو محط لأطماع الجوار المباشر. وهنا، وبسبب التكوين القبائلي للمنطقة بأسرها، واتساع المساحة الجغرافية، لا تعود الحدود السياسية حاجزاً حقيقياً بوجه الاختراقات العابرة للحدود السودانية المترامية الأطراف مع كل من مصر وليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا وإرتيريا، وأخيراً البحر الأحمر الذي يفصله عن السعودية. وخطورة المسألة أن المنطقة وشمال شرقي القارة الأفريقية، تجتاجهما قلاقل واضطرابات تشتعل فترة ثم تخبو، ثم تعود لأسباب تتعلق بقوة الدولة المركزية أو ضعفها في الدول المشار إليها. وإذا ما استثنينا السعودية التي يفصلها البحر الأحمر عن السودان، فإن مصر هي الدولة الوحيدة في الجوار السوداني التي تتمتع بدولة مركزية قوية، وقادرة على حماية سيادتها وحدودها، وداخلها. أما الدول الأخرى فهي، وإن بنسب متفاوتة، طعم لاضطرابات متكررة داخلية أو حدودية. إذاً، فإن السودان، بسبب الاضطرابات التي تجتاحه راهناً، يواجه مصيراً صعباً ومقلقاً للغاية. فهو معرض، مع تنامي المزاجات الانفصالية، أو المافيوية المناطقية، إلى التفتت، ما يدفع حكماً الجوار إلى المغامرة ومحاولة مد اليد إلى الأراضي والثروات السودانية، إما مباشرة أو غير مباشرة. وقد يتخذ الأمر شكل التدخلات غير المباشرة عبر قوى محلية في السودان. ولا يغيب عن البال تدخل قوى إقليمية معنية بمصير السودان لاعتبارات استراتيجية، فضلاً عن تدخلات قوى دولية كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين. ما تقدم هو توصيف لحال بلد معرض للتفتيت. فكلما تحللت الدولة، تحللت معها وحدة البلاد، وتراجع الخضوع للسلطة في المركز، وبالتالي تعاظمت قدرة الخارج، أكان الجوار المباشر أم ما خلفه، على التدخل لاقتطاع نفوذ أو ثروات. تلك هي لعبة الأمم. بالعودة إلى اجتماعات القاهرة الأخيرة التي عقدتها قوى الحرية والتغيير، وطرحت فيها خريطة طريق لحل الأزمة، يمكن القول إن الأفكار ليست بجديدة. فالدعوة إلى وقف إطلاق نار دائم، وآلية عليا للإشراف على تنفيذه، وتأمين توزيع المساعدات الإنسانية، اقتراحات مطروحة منذ بداية الحرب في كل المنصات التي حاولت أن تتوسط لإنهائها، من منصة جدة السعودية ـ الأميركية، إلى منصة منظمة الاتحاد الأفريقي، وأخيراً منصة منظمة "إيغاد" الإقليمية. ومع ذلك لم يلتفت الطرفات المتحاربان إلى هذه البنود، رغم إعلانهما المتكرر أنهما مستعدان لوقف إطلاق النار. أما بالنسبة إلى المسار السياسي، فالدعوة إلى حوار بين القوى السياسية، وتشكيل حكومة تصريف أعمال، ثم حكومة انتقالية وحوار سوداني شامل، فهي مقترحات لا تأخذ بالاعتبار كفاية أن ثمة طرفين هما أساس المشكلة والأساس في الحل. ومن دونهما لا أفق لإنهاء المعاناة. فمن يمسك بالسلاح ويمتلك قدرات عسكرية ومالية كبيرة ودعماً من الخارج ويمكنه مواصلة حرب لمدة طويلة، هو الطرف الذي سيجلس في النهاية إلى طاولة الحوار المنتجة. ويقيننا أن مرحلة عودة السلطة إلى المدنيين لم تحن بعد. فالعسكر السوداني من الطرفين غير مقتنع بأن حكم المدنيين مجدٍ، وغير مستعد لتسليم السلطة. والأخطر أن كلاً من البرهان وحميدتي مقتنع بأنه قادر على حسم الحرب لمصلحته. استنتاجاً: ما لم يشعر أي من الطرفين بأنه يمكن أن يخسر الحرب، فالأخيرة مرشحة للاستمرار طويلاً، مع ما ستجره من عواقب وخيمة على السودان وأهله.
مشاركة :