التشريعات الصحفية أحد المجالات القانونية المستقرة منذ عقود، وإن كانت الإسهامات العلمية في هذا المجال قليلة. وإن كان معظم الحديث طوال الوقت بين المعنيين بأمور الصحافة يتمحور حول الحرية وضماناتها، فإن المشتغلين بالقانون يؤكدون دائماً على وجوب التلازم بين طرفي معادلة يرون أنها هي الحاكمة للأمور. الطرفان هما الحرية والمسؤولية، فالممارسة المهنية عندهم لا تنفصل عند الالتزام بالضوابط، وهو أمر لا يخفى أيضاً على معظم المشتغلين بالصحافة، وإن كانت علاقتهم بالنصوص القانونية أضعف مقارنة بالقانونيين. الباحثة الإماراتية عائشة الرئيسي في رسالتها للماجستير أسهمت بجهد في هذا المجال عبر التطرق إلى موضوع المسؤولية الجنائية لمدير التحرير الصحفي - دراسة مقارنة بين تشريعات الإمارات ومصر والكويت والأردن. ولم تقف الباحثة، وهي مستشار مساعد بإدارة قضايا الدولة بوزارة العدل، عند حدود المقارنة، إذ طرحت مجموعة من التوصيات. من أهم هذه التوصيات تعديل قانون الإجراءات الجزائية بحيث يمنع الحبس الاحتياطي للمتهم في الجرائم الصحفية، تقديراً لدور الصحافة ووسائل الإعلام في أداء رسالتها السامية، وتعديل مقدار الغرامات المنصوص عليها في قانون المطبوعات والنشر الاتحادي رقم 15 لسنة 1980 برفعها حديها الأدنى والأعلى، خاصة أنه مضى على صدور القانون ونفاذه ما يزيد على 33 عاماً ولم يعدل لغاية الآن. كذلك، أوصت بتعديل مقدار الغرامات المنصوص عليها في قانون العقوبات رقم 3 لسنة 1987 الخاصة بالجرائم التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من طرق النشر برفعها حديها الأدنى والأعلى، خاصة وأنه مضى على صدور القانون ونفاذه ما يزيد على 26 عاماً. ودعت إلى إصدار قانون عصري وحديث يضع الأطر القانونية النموذجية في تنظيم وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء مع الاطلاع على تجارب الدول الأخرى في هذا الشأن. انطلقت الرئيسي في بحثها، كما تقول، من التسليم بأن الأصل أن تؤدي الصحافة رسالتها بحرية واستقلال، وأن تستهدف تهيئة المناخ الحر لنمو المجتمع وارتقائه والمفترض أيضاً أن الصحفي مستقل لا سلطان عليه في أداء عمله لغير القانون. ومن المهم جداً، كما تقول الرئيسي، ألا تفرض أية قيود تعوق حرية تدفق المعلومات لكن علينا أيضاً أن نذكّر أنه من واجبات الصحفي أن يلتزم فيما ينشره بالمبادئ والقيم التي يتضمنها الدستور وبأحكام القانون مستمسكاً في كل أعماله بمقتضيات الشرف والأمانة والصدق وآداب المهنة وتقاليدها بما يحفظ للمجتمع مُثله وقيمه وبما لا ينتهك حقاً من حقوق المواطنين أو يمس إحدى حرياتهم. وتعلل اهتمام الفقه الجنائي بجرائم الصحافة بتعلقها بموضوعات شائكة وكثيرة هي محل جدل فقهي من عدة نواحٍ، أولاها من حيث مشروعية العمل الصحفي، أي الأساس الدستوري والقانوني الذي يستند إليه، وما هي الحقوق التي يتم الاستناد إليها؟ هل هي حقوق الأفراد فقط أم تمتد إلى حق الدولة في المحافظة على أسرارها؟ والقيود التي تحد من مشروعيتها. الناحية الثانية تنظيم المسؤولية عن هذا النوع من الجرائم الذي يتمثل في خروج كل من المشرع الإماراتي والكويتي والأردني على القواعد العامة في المسؤولية بحيث جعل مناطها ليس الفعل الذي قام به الفرد في الجريمة، ولكن دوره في نشر الفكرة، وأنيط كذلك ببعض الأشخاص القيام بدور الإشراف والرقابة في تلك القوانين. وتقول: في أطروحة الرسالة الخاصة بي التي حصلت بموجبها على الماجستير من جامعة الشارقة، ناقشت مسؤولية مدير التحرير الجنائية عن الجرائم الصحفية التي تقع عندما تحدث مخالفة للأحكام التي أقرها القانون لحفظ حقوق الفرد، سواء ما تعلق منها بالاعتداء على المصلحة العامة أو المصلحة الخاصة. وكذلك سعيت إلى الوقوف على القواعد العامة في المسؤولية الجنائية، وحدودها في حالة مدير التحرير الصحفي. والمقصود ب مدير التحرير في الرسالة من يدير العملية التحريرية في الصحيفة، سواء كان مسماه رئيس تحرير أو مدير تحرير. وتوضح عائشة الرئيسي أن أهداف الدراسة تلخصت في دراسة أحكام المسؤولية الجنائية الناشئة عن الجرائم الصحفية، وذلك من خلال تقييم مدى اتفاق هذه القواعد مع الأحكام العامة للقانون، والتساؤل: هل تنظيم هذه المسؤولية يحتاج إعادة النظر لحل كثير من التعقيدات المتعلقة بتحديد المسؤول عن الجرائم الصحفية ؟ وهل يحتاج مرتكب الجريمة الصحفية إلى عقوبات خاصة؟ اعتمدت الرئيسي في الأطروحة على المناهج: التحليلي والمقارن والوصفي، وذلك من خلال دراسة وتحليل التشريعات والأحكام القضائية الخاصة بالمسؤولية الجنائية لمدير التحرير، وكذلك المنهج المقارن بين التشريع الإماراتي والمصري والكويتي والأردني. البحث مقسم إلى أربعة فصول تناولت الرئيسي في أولها الجريمة الصحفية، وفي الثاني الأحكام الإجرائية والعقابية الخاصة بالدعوى الناشئة عن الجريمة الصحفية، وناقش الثالث تنظيم المسؤولية الجنائية في الجريمة الصحفية، بينما ركز الرابع على القواعد الخاصة بالمسؤولية الجنائية لمدير التحرير. وأشارت الرئيسي إلى أن المشرع الإماراتي أقر المسؤولية الجنائية لمدير التحرير في المادة 95 من قانون المطبوعات والنشر رقم 15 لسنة 1980 التي جاء فيها: إذا ارتكب الكاتب أو واضع الرسم أو من باشر غير ذلك من طرق التعبير جريمة مما نص عليه هذا القانون اعتبر مدير تحرير الصحيفة أو المحرر المسؤول عن قسمها الذي حصل فيه النشر، إذا لم يكن ثمة رئيس تحرير، فاعلاً أصلياً لهذه الجريمة ويعاقب مع مرتكبها بالعقوبة المقررة لها. ومع ذلك يعفي مدير تحرير الصحيفة أو المحرر المسؤول عن قسمها الذي حصل فيه النشر من المسؤولية الجنائية إذا ثبت أن النشر قد تم بغير علمه وأنه قد قدم منذ بدء التحقيق كل ما لديه من المعلومات والأوراق للمساعدة على معرفة المسؤول عما نشر. يجب أن يكون لكل صحيفة مدير تحرير مسؤول يشرف إشرافاً فعلياً على كل محتوياتها أو عدد من المحررين يشرف كل منهم إشرافاً فعلياً على قسم معين من أقسامها، ويجوز أن يكون مالك الصحيفة رئيساً للتحرير أو مديراً للتحرير أو محرراً مسؤولاً. وافترض المشرع الإماراتي مسؤولية رئيس التحرير على أساس ما فرضه عليه قانون المطبوعات والنشر من القيام بواجب الإشراف والرقابة، وعلى ذلك افترض المشرع قرينة قانونية على إحاطته بمحتويات الجريدة حتى لو لم يقم بها فعلاً. وبالتالي، كما جاء في الرسالة، فإن رئيس التحرير يعاقب عن ارتكاب أية جريمة تتم بواسطة الصحيفة التي يرأس تحريرها باعتباره فاعلاً أصلياً، ويعد مسؤولاً مسؤولية مفترضة لا تحتاج إلى إثبات القصد الجنائي، أي لا تتطلب إثبات علمه وإحاطته فعلاً بما نشر في الجريدة التي يرأس تحريرها مما يجرمه القانون، لأن هذا العلم مفترض طبقاً لواجب الإشراف والرقابة الذي فرض عليه المشرع القيام به، وهو لا يستطيع نفي المسؤولية عنه بإثبات غيابه وقت النشر أو أنه وكل غيره في القيام بهذا العمل، أو لم يراقب صدور جميع المقالات نظراً لكثرتها وتنوعها مما حال دون قيامه بواجبه، لأنه هو المسؤول عن نشر جميع المقالات التي تنشر في الصحيفة التي يرأس تحريرها. وقد يكون عدم التزام مدير التحرير بواجبه في عدم نشر ما هو مخالف للقانون متعمداً أو إهمالاً مما أدى إلى وقوع الجريمة. والإخلال العمدي بواجب الرقابة الفعلية يعني إما أن يكون مدير التحرير هو مؤلف الكتابة، وقام بكتابة مقال يتضمن جريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون المطبوعات والنشر وتوافر لديه القصد الجنائي المتضمن نشر هذه الكتابة على مسؤوليته. وفي هذه الحالة يعد مدير التحرير فاعلاً أصلياً للجريمة لقيامه بعمل التأليف الذي يمثل النشاط المادي في الجريمة محل النشر، وهي مسؤولية تخضع للقواعد العامة في قانون العقوبات. وإضافة إلى ذلك، هناك مسؤولية مفترضة لمدير التحرير نتيجة لالتزامه بواجب الإشراف والرقابة، ومثال ذلك أن يكتب صحفي مقالاً متضمناً إحدى جرائم الصحافة، ويعرضه على مدير التحرير بما له من دور في رقابة النشر قبل الأمر بطباعته، وفي هذه الحالة يعد مدير التحرير فاعلاً أصلياً إلى جانب كاتب المقال المنشور، ولكن وفقاً لقواعد المسؤولية الجنائية عن فعل الغير وفقاً لنص المادة 95 من قانون المطبوعات والنشر الاتحادي باعتبار أن مدير التحرير مطلع على جميع المقالات قبل نشرها. وقد يهمل مدير التحرير في واجبه بالرقابة الفعلية على ما ينشر في الصحيفة التي يرأس تحريرها من خلال عدم اطلاعه على المقال قبل طبعه ونشره، وهو ما يساهم في تحقق ماديات الجريمة مثل حالة تعمد الإخلال بواجب الرقابة، كما أنه لم يتوافر لديه الركن المعنوي في صورة القصد الجنائي. وذكرت الرئيسي في البحث أنه حتى تتكامل عناصر جريمة مدير التحرير يتعين نشر العمل الذي ينطوي على ما يحظر القانون نشره، والنشر هو جعل خبر أو واقعة معلومة من قبل الجمهور، فبالنشر تقوم المسؤولية الجنائية لمدير التحرير عن الجرائم الصحفية، فإذا لم يتم النشر، لم تتحقق الجريمة التي تقع بطريق الصحف. ويفترض النشر أن تتحقق العلانية في العمل، والمقصود هنا علانية الكتابة أو الرسم أو الصور الواردة في الصحيفة. فيما يخص موقف القانون المصري من المسؤولية الجنائية لمدير التحرير، أوضحت عائشة الرئيسي أنه لم يعد يعتبرها مسؤولية مفترضة، وهناك مساءلة لمدير التحرير إذا صدر عنه سلوك يجعله فاعلاً أصلياً للجريمة أو شريكاً فيها وفقاً لنصوص قانون العقوبات، بل يسأل عند ثبوت مساهمته في الأفعال التي يجرمها القانون على أية صورة من صور المساهمة الجنائية على أن هناك حالات يسأل فيها مدير التحرير عن الجريمة التي وقعت بواسطة الصحيفة، إذا جمع بين صفته كمدير للتحرير وصفة مؤلف الكتابة أو ما في حكمها (الرسوم الكاريكاتورية)، والتي تتضمن ما يمس شرف أو اعتبار الغير. ويستوي في ذلك أن يكون قد انفرد بكتابتها أو ساهم في جزء منها إذا ساهم عن علم في ارتكاب الجريمة بأفعال بعيدة عن النشر إذا كانت تمثل اشتراكاً فيها. من ناحية المشرع الأردني، فإنه أقر المسؤولية الجنائية لمدير التحرير عن الجرائم التي ترتكب بواسطة المطبوعات الدورية، واعتبر مدير التحرير وكاتب المادة الصحفية فاعلين أصليين بالمعنى المقصود في المادة (75) من قانون العقوبات الأردني رقم 16 لسنة 1960 التي جاء فيها:فاعل الجريمة هو من أبرز حيز الوجود العناصر التي تؤلف الجريمة أو ساهم مباشرة في تنفيذها. وأقر المشرع الكويتي المسؤولية الجنائية لمدير التحرير عن الجرائم التي ترتكب بواسطة الصحف والمطبوعات الدورية الأخرى، واعتبرها مسؤولية شخصية، أي أن هذه تقوم على أساس من الالتزام القانوني المفروض على مدير التحرير، و التي جاء فيها يجب أن يكون لكل صحيفة مدير تحرير أو أكثر يشرف عليها أو على قسم من أقسامها إشرافاً فعلياً، كما أنه أضاف على مدير التحرير أن يتحرى الدقة والحقيقة في كل ما ينشره من أخبار ومعلومات أو بيانات، وأن يكون مطلعاً على كل ما ينشر في الصحيفة التي يشرف عليها، والتي قبل أن يشرف عليها إشرافاً فعلياً ووافق على ذلك موافقة خطية على نحو ما قررته الفقرة الثانية من المادة (12) من القانون رقم 3 لسنة 2006. وأشارت عائشة الرئيسي إلى أن المشرع الإماراتي أورد حالة واحدة يجوز بمقتضاها إعفاء مدير التحرير من المسؤولية الجنائية لمدير التحرير عن جرائم الصحافة في المادة 95 من قانون المطبوعات والنشر الاتحادي رقم 15 لسنة 1980 والتي جاء فيها: ومع ذلك يعفى رئيس التحرير أو المحرر المسؤول من المسؤولية الجنائية إذا أثبت أن النشر قد تم بغير علمه، وأنه قد قدم منذ بدء التحقيق كل ما لديه من المعلومات والأوراق للمساعدة على معرفة المسؤول عما نشر. يستفاد من هذا النص، كما ذكرت، أن المشرع الإماراتي قد قرر بهذا النص حالة لإعفاء رئيس التحرير أو مدير التحرير من العقاب إذا أثبت أن النشر قد تم بغير علمه، وأنه قد قدم منذ بدء التحقيق كل ما لديه من المعلومات والأوراق المساعدة على معرفة المسؤول عما نشر. وخلصت عائشة الرئيسي إلى مجموعة من النتائج أولاها أن هناك معوقات تواجه تنظيم المسؤولية الجنائية في الجريمة الصحفية منها كثرة عدد المتداخلين في إعداد ونشر المطبوعة وصعوبة تطبيق القواعد العامة، وأن هناك عدة أشخاص يسألون عن الجريمة الصحفية وأهمهم المؤلف ومدير التحرير، كما قد يسأل المستورد والبائع والطابع ومالك الصحيفة بشروط خاصة. وأشارت إلى وجود ثلاث نظريات رئيسية في تنظيم المسؤولية الجنائية للأشخاص المسؤولين عن الجريمة الصحفية، وهي فكرة التضامن في المسؤولية، وفكرة التتابع في المسؤولية وفكرة المسؤولية المبنية على الإهمال. وأشارت إلى عدة أسباب لإباحة الجرائم الصحفية وأهمها حق النقد وحق نشر الأخبار وحق التبليغ عن الجرائم ونشر ما يجري في المحاكمات العلنية والطعن في أعمال الموظفين العموميين والمكلفين بخدمة عامة. وذكرت أن هناك قيدين نص عليهما المشرع الإماراتي في الدعاوى الجزائية عن بعض الجرائم الصحفية، وهذان القيدان هما الشكوى والطلب، وأنه لا يحظر حبس المتهم في الجريمة الصحفية. ولفتت إلى جزاءات عدة تفرض على الجريمة الصحفية بعضها فردي يوقع على الصحفي ورئيس التحرير أو مدير التحرير وهي الحبس والغرامة، وبعضها جماعي يوقع على الصحيفة وهو تعطيل الصحيفة لمدة معينة نص عليها القانون. وأوضحت أن الدعوى الجزائية الناشئة عن أي من الجرائم المنصوص عليها في قانون المطبوعات والنشر الاتحادي رقم 15 لسنة 1980 تنقضي بفوات ثلاثة أشهر من تاريخ وقوع الجريمة.
مشاركة :