كائنات آي وي وي الأسطورية

  • 3/5/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يفاجئك الفنان الصيني آي وي وي من حيث لا تعلم بأعماله الفنية التي تشعر وكأنها تغزو العالم منذ أفرج عن جواز سفره عام وسمح له بالسفر بعد حصار طويل وإقامة جبرية بمنزله دامت لأربع سنوات، لكأن هناك تفجر في طاقاته الإبداعية وليس بوسع العالم استيعابه. يتنقل بين مواقع الكوارث العالمية مستوحياً منها راجعاً دوماً لجذوره وللأساطير الصينية، كما في الأعمال المعروضة مؤخراً في مركز التسوّق التاريخي البون مارشيه الواقع على يسار ضفة نهر السين، حيث نُظم هذا المعرض الذي يعد أهم وأكبر معارضه في العاصمة الفرنسية حتى هذا التاريخ. جرأة أن يحل آي وي وي بهذا الزخم في مركز تجاري حيث تستقبلك كائناته معلقة في سماء المركز ومطلة من فتريناته الزجاجية. كائنات عجيبة وآلات مصنوعة من الخيزران والحرير الأبيض، الطائرات الورقية والخيزران وورق الأرز هي مفردات أساسية وغنية في منظومة فنون الصين العريقة، ويكفي أن نعرف أن الفنان قد وظف الحرفيين في إقليم شان دونج والحاملين لتراث تصنيع تلك الطائرات التراثية، محيياً هذه الحرفة المهددة بالإنقراض. ولقد أضاف لمسته التجديدية باستعمال الحرير مع الورق لإعطاء لمسة حالمة لكائناته، كما ترك بعضها في هيئة هياكل عارية من الخيزران المنسوج بتشابك بديع و ذلك ليظهر الحرفية المذهلة والفن الدقيق الموظف في تلك التكوينات. في هذا العمل التركيبي الضخم المسمى (لعب الطفل) تشعر بهذا الفنان العالمي والمتكرس للقضايا الإنسانية الحيوية بكوكبنا تشعر به يلعب كطفل مرح في مساحات البون مارشية لكنه في الواقع ينبش الترث المحكي الصيني راجعاً في التاريخ لألفين عام، للقرن الرابع قبل الميلاد مستوحياً كائناته الحريرية الطائرة من الأساطير الشعبية الصينية التي تكمن في ذاكرة أطفال الصين منذ القدم متنقلة من جيل لجيل، تلك القصص التي شكلت المادة التي أثرت مخيلة المبدعين ومنهم الفنان الصيني شان هان جينق في مجموعته التي أخذ آي وي وي يلعب بها، متخيراً عدد كائن عجيباً انتقى منها ليجسدها وهي تطير بخفة النور في المساحات الباريسية وفي مخيلات ليس فقط رواد السوق وإنما أيضاً جمهور الفن الذي استقطبته تلك الأعمال. وإن ظهور آي وي وي في هذا المركز التجاري وتحويله لصالة عرض فني ما هو إلا مثال على قدرة الفن على اعطاء هذه الشحنة من الطاقة والتي تعطي نكهة حضارية وثقافية تحيي مواقع التجارة وساحات المدينة، أنها روح تمنح لمساحات تغرق مع الوقت في النمطية وتفقد ديناميكيتها ليأتي الفن ويشعل جذوته فيها. ومثل حكواتي طالع من التاريخ يتنقل آي وي وي بكائناته وأعماله الفنية في مخيلات العابرين من الأطفال والراشدين على السواء يحكي أساطيره في ثلاث مواقع بالبون مارشيه، تجدها في واجهات السوق مرفقة بعشرة نصوص قصيرة من الأساطير، كما تطل عليك محلقة في القاعات الشاهقة الأسقف والفترينات وفي صالة العرض الخاصة حيث يعرض هناك لوحة بحجم الجدار تحوي الصور التي التقطها الفنان بهاتفه الجوال للحظات من حياته وعائلته ورحلاته، هي جدارية مثل سجل مذهل لحياة الفنان واقتباساته من أبيه الشاعر المشهور آي كنق والذي قضى العشرين سنة الأولى من حياة ابنه في السجن، وهي سيرة تشبع فضول المتلقي بقدر ما تؤججه. ولا يدعك الفنان في حلم الماضي والأساطير وإنما يخرج تلك الاسماك والطيور والتنانين التي يصل بعضها بطول متراً من أسطوريتها معلقاً بقوله: "هي كائنات وديعة وصفيقة وسيئة الحظ، وأنها لتمثل عالمنا اليوم". يستوقفنا تعليقه الساخر والمشفق هذا أو رؤيته لعالمنا الموقوف كما على صراط بين قيم الماضي الخرافية وحراك الحاضر الجشع والأناني، هي كائنات أكبر من واقعها مثل . مليار بشري والذين يتكاثرون كتنين خارج عن كل سيطرة مستهلكين ومفجرين الكوكب وطاقاته. يشفق آي وي وي على الأرض، وما الصين إلا مثال على ممارسات هذا التنين البشري، والذي يبتعد بتسارع عن نعومة الحلم وقدرته على الإحياء، يوقف كائناته بأرجاء العالم وبمخيلاتنا كصرخة احتجاج على ما تقوم به جمهورية الصين من حجب لكل ما يثير المخيلة والفنتازيا، هذا الحجب الذي هو أكثر قسوة من كل سور وحدود. إنه قتل متعمد للمخيلة ونبلها وقدرتها على إخراج الكوكب من مأزقه. نتأمل كائنات آي وي وي البراقة والشفافة ولا نملك إلا أن نتذكر غمامة التلوث التي غطت بكين وملأت وسائل الإعلام في الأشهر الماضية، غمامة هي التجسيد الصارخ لممارساتنا الاستهلاكية الواعية واللاواعية. ولا تعجب أن يسمي آي وي وي باب المعبد أو حارس حرية التعبير، فهو صوت للإنسان بلا حد من جنسية أو أرض، إنه صوت كوني ومعبر لأصواتنا جمعياً نصرة للأرض وبديعها.

مشاركة :