في خضم التجاذبات التي تشهدها الخدمات المصرفية الدولية، تبرز دول جنوب شرق آسيا بحسبانها مراكز مالية عالمية قادرة على منافسة المراكز التقليدية، مثل لندن، فرانكفورت، ونيويورك وغيرها من المراكز ذات الباع الطويل في تقديم الخدمات المصرفية. وعلى الرغم من صعوبة وضع معايير عالمية حقيقية موحدة لأكبر البنوك في العالم، الآن الديناميكيات والإمكانات المتوافرة في المشهد المصرفي في جنوب شرق آسيا حاليا، تقنع كثيرا من الخبراء بأن الخدمات المصرفية العالمية وكعديد من الصناعات الدولية الاستراتيجية والمهمة تنتقل من أوروبا والولايات المتحدة إلى شرق وجنوب شرق آسيا تدريجيا. ولكن قبل التطرق إلى المراكز المالية في جنوب شرق آسيا القادرة على تقديم خدمات مصرفية بمعايير عالمية وجدارة دولية يبرز سؤال مهم حول العوامل التي تجعل مدينة من المدن مركزا ماليا دوليا. ويشير مفهوم المدن ذات المركز المالي العالمي إلى مدينة ذات طابع استراتيجي لديها مؤسسات مالية رائدة وأسواق مالية مرموقة، وتركيز كثيف من المؤسسات البنكية العامة والخاصة وشركات تجارية وشركات تأمين ذات طابع دولي، وكذلك بورصات للأوراق المالية وأن تكون مقار الشركات الاستثمارية العالمية متعددة الجنسيات. يضاف إلى ذلك بنية تحتية وأنظمة اتصالات حديثة وأنظمة تجارية مستقرة وبالطبع مؤسسات قانونية وتنظيمية تتمتع بالاستقرار والشفافية مدعومة من قبل نظام عام مستقر، وبالتالي تتمتع تلك المدن بجاذبية خاصة بالنسبة للمهنيين والخبراء في جميع المجالات، خاصة المالية نظرا لمستويات المعيشة المرتفعة التي تقوم بتوفيرها، إضافة إلى فرص النمو الهائلة. وحول أفضل دول جنوب شرق آسيا التي تتمتع بأفضل المقومات لتحتل الصدارة في مجال تقديم الخدمات المالية يعلق الخبير المصرفي البريطاني أليكس بوديا لـ"الاقتصادية" قائلا "في الوقت الراهن تحتل سنغافورة المرتبة الأولى في جنوب شرق آسيا في مجال الخدمات المصرفية الرائدة، فمن منظور الأعمال التجارية تكمن جاذبية سنغافورة في إطارها القانوني الشفاف والسليم الذي يكمل استقرارها الاقتصادي والسياسي، وبذلك أثبتت نفسها كمركز مالي رئيس، ومع مرور الوقت باتت تتمتع بأسواق رأسمالية عميقة، وهي سوق رائدة في مجال التأمين وإدارة الثروات ولديه ثقافة عمل منضبطة وفعالة". ويضيف "بالتأكيد هونج كونج لديها باع طويل في مجال تقديم الخدمات المصرفية، لكن التغييرات التي تشهدها المدينة في الأعوام الأخيرة تضع تساؤلات حول مستقبلها في مجال الخدمات المالية. أما المفاجأة فربما تكون فيتنام التي تعزز موقعها في أسواق المال الدولية عاما بعد آخر، وفي بعض التقييمات العالمية لأفضل بنوك منطقة جنوب شرق آسيا، يوجد بنك فيتنامي واحد على الأقل في المراكز العشرة الأولى، ومن حيث نمو الأرباح قبل الضرائب تهيمن البنوك الفيتنامية على المراكز العشرة الأوائل من خلال خمسة بنوك". بالتأكيد لم تكن فيتنام تتمتع بهذا الأفق الوردي دائما إلا أن البنك المركزي الفيتنامي أعاد هيكلة القطاع المصرفي بالكامل، ووضعت البنوك أهدافا صارمة لها، ومن المتوقع أن تحافظ على معدلات الديون المعدومة عند أقل من 3 في المائة. وعلى الرغم من أن الخبير المصرفي أليكس بوديا يضع إندونيسيا ضمن الدول المرشحة لمكانة مميزة في عالم الخدمات المصرفية بالقول "البنوك الإندونيسية ليست في وضع مثالي، إلا أن التغيير يجري على قدم وساق، فإندونيسيا دولة شابة بمتوسط عمر 28 عاما، وأسهم ارتفاع استخدام الهواتف الذكية بنسبة 15 في المائة عام 2014 إلى 47.6 في المائة في 2019 إلى تعزيز القاعدة المصرفية في البلاد، والآن تستهدف كثيرا من منصات التكنولوجيا المالية الفئة السكانية الشابة الماهرة في استخدام التكنولوجيا". لكن الدكتور ألكسندر جيمس أستاذ النظم المصرفية في مدرسة لندن للتجارة يرى أنه على الرغم من الخطوات التي قطعتها فيتنام وإندونيسيا حتى الفلبين ليجدوا لهم موقعا مميزا على خريطة الدول التي يمكن اعتبارها مراكز مالية عالمية، فإن هذا لا ينفي من وجهة نظره أن المنافسة ستتواصل بين الأقطاب الثلاثة سنغافورة، هونج كونج، وشنغهاي للحفاظ على مواقعهم كمراكز مالية عالمية. ويقول لـ"الاقتصادية"، إن "جنوب شرق آسيا مكان مرغوب بشكل متزايد للشركات الغربية للقيام بأعمال تجارية، لكن هناك تساؤلات حول أدوار المدن التي تعد مراكز مالية عالمية في المنطقة، وهناك ثلاثة معايير يمكن اعتمادها لتقييم أهمية المدينة للأعمال التجارية والتمويل المالي، والمعايير الثلاثة هي، مكانها كقاعدة للأنشطة التجارية الإقليمية والعالمية، وموقعها كمركز لإدارة الثروات خاصة المصنوعة في أماكن أخرى، وحجم سوق رأس المال والأنشطة المصرفية المرتبطة بها". وفقا لتلك المعايير فإن الدكتور ألكسندر جيمس يصل إلى خلاصة مفادها أن سنغافورة ستظل منارة الخدمات المالية في المنطقة، بينما تتراجع مكانة هونج كونج لمصلحة شنغهاي، وستظل سنغافورة الأفضل خاصة وفقا للمعيار الثاني المتعلق بإدارة الثروات. وفي تلك النقطة تحديدا يقول "ارتفع حجم الأصول الخاضعة للإدارة والاستشارات المالية في هونج كونج من 1.3 تريليون تقريبا في 2010 إلى ثلاثة تريليونات في 2020، لكن في سنغافورة ارتفع إلى 3.4 تريليون دولار، ولا يعود الأمر فقط إلى جاذبية قوانين سنغافورة لإنشاء صناديق إدارة الثروات وكفاءتها الضريبية، لكن أيضا للتوتر في العلاقات بين الهند والصين، لذلك يفضل أصحاب رؤوس الأموال الهنود سنغافورة كقاعدة لإدارة ثرواتهم بدلا من هونج كونج وشنغهاي". مع هذا تحذر الدكتورة ميلا أندرسون أستاذة الأنظمة المصرفية في جامعة لندن من التأثير السلبي للمنافسة المستعرة بين دول منطقة جنوب شرق آسيا لمن سيحتل المركز الأول أو مركزا متقدما في قائمة أفضل دول العالم في مجال الخدمات المصرفية. وتقول لـ"الاقتصادية"، إن "عدد ملحوظ من دول جنوب شرق آسيا يمتلك مدنا تحظى بمكانة جيدة في مجال الخدمات المصرفية أو في طريقها لنيل الاعتراف العالمي بها كمراكز مالية دولية، لكن هناك غياب للتنسيق بين دول المنطقة بهذا الشأن، وكل منها تسعى لتحقيق الاستفادة القصوى مما تتمتع به من مزايا مالية بشكل فردي، ويمكن أن ينعكس ذلك سلبا على دول المنطقة جميعا، إذ سيؤدي إلى تأخير حصول دول جنوب شرق آسيا على المكانة الدولية اللائقة بها في مجال الخدمات المصرفية، لأن عدم التنسيق يستنزف جزءا كبيرا من طاقتها في المنافسة البينية، لحسم الخلاف بينها حول المدينة الرائدة في المجال المالي في منطقة جنوب شرق آسيا، وسيؤخر ذلك قدرتها على الانتقال إلى مرحلة أعلى من المنافسة الدولية لاحقا".
مشاركة :