«بنات الجنّ» لفاغنر: الموسيقى إذ تقع ضحيّة للأدب

  • 3/5/2016
  • 00:00
  • 38
  • 0
  • 0
news-picture

هناك ريتشارد فاغنر، الموسيقي الكبير، صاحب الأوبرات الألمانية التي أقامت الدنيا ولم تقعدها منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى اليوم، وهناك ريتشارد فاغنر الكاتب الثائر والغائص حتى النخاع في التنظير للفن والثورة والأساطير الشعبية... وهناك الى هذا وذاك، ريتشارد فاغنر الموسيقي الشاب المبتدئ الذي كان اكتشافه الموسيقى الرومانطيقية مبكراً، قد حدّد أسلوب حياته ومؤلفاته الموسيقية اللاحقة، وإن كانت الأعمال المبكرة التي عبر فيها عن ذلك، قد ظلّت على الدوام شبه مجهولة، إذ إن الخلف لم يقرر أن يرث عنه وأن يقدم من أعماله سوى أهمها وأضخمها. والحال أن هذا الواقع قد ظلم أعمالاً كثيرة كتبها فاغنر في حياته، لا سيما منها تلك الأعمال التي تُسمى عادة بـ «أعمال الشباب». وفي مقدّم هذه الأعمال، أوبرا «بنات الجنّ» التي ألفها فاغنر حين كان، بعد، في العشرين من عمره، لكنه سيودعها مهب النسيان ويبعدها من حياته طوال تلك الحياة، بحيث أن هذه الأوبرا لن تكتشف أو يعاد اكتشافها أو تقدّم إلا بعد خمسة أعوام من موت مؤلفها. فـ «بنات الجنّ» قدمت للمرة الأولى في ميونيخ في العام 1888، أما فاغنر فإنه كان قد أسلم الروح في العام 1885. > ومع هذا، لا يجوز لنا الحكم على هذا العمل بأنه لا يتمتع بقسط ما من الأهمية، حتى وإن كان لا يرقى الى المستويات الموسيقية الرائعة التي ستصل إليها، لاحقاً، أعمال لفاغنر مثل «أساطين الغناء» و «لوهنغرين» و «المركب الشبح» و «تريتسان وايزولت»... غير أن ما يمكن قوله منذ الآن عن «بنات الجنّ»، هو أنها تحمل البذور التي ستنتج أعمال فاغنر الكبرى... فهنا ثمة مكان واسع للأساطير الشعبية والأشعار المميزة التي تعبر عنها في حوارات ناضجة، وللبعد الرومانطيقي في الموسيقى، وللخبطات المسرحية، وللتجديد في التوزيع الأوركسترالي. ولكأن الأمر يقوم في كون «بنات الجنّ» تمريناً عاماً حققه موسيقي كان يعرف أنه سيصبح ذات يوم واحداً من كبار مؤلفي فن الأوبرا، وأعظم موسيقي أوبرالي في بلاد الشمال الأوروبي قاطبة. > من المعروف أن فاغنر اقتبس موضوع أوبراه هذه من عمل كان سبق لكارلو غوتزي أن كتبه بعنوان «المرأة الأفعى»... وكان ذلك العمل، وفق الدارسين، ينتمي الى مرحلة شهدت تطوراً في فن الأوبرا مرتبطاً بالمذاق الرومانطيقي الميّال الى عوالم غرائبية على النسق الذي كان صوّره موتسارت في «الناي السحري»، كما تابعه في تصويره فيبر، لا سيما في أعماله ذات الأجواء الاستشراقية... حيث أن هذا النوع من الأعمال يهيمن تماماً على الذوق الألماني، خصوصاً خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر... وكان من الصعب على موسيقي شاب من طينة فاغنر أن يفلت منه ومن غنائيته المفرطة، حتى وإن كان في ذلك الحين يسلك طريقه التي ستتيح له تحقيق ثورة موسيقية ستتجلى خصوصاً في عمله اللاحق «رانزي». > أوبرا «بنات الجنّ» المرتبطة تماماً بأساطير الغابات وبلاد الشمال الأوروبية، تتحدث عن آريندال، الشاب السعيد بزواجه من الجنية آدا، منذ ما لا يقل عن ثمانية أعوام، والذي يعرف تماماً أن شرط استمرار سعادته الزوجية يكمن في استنكافه عن سؤال زوجته من هي ومن أين أتت... غير أن القدر يكون له ذات يوم في المرصاد، إذ إن رغبته في سبر أغوار سر زوجته المحبوبة تدفعه الى سؤالها، فإذا بها تخبره بنفسها بكل ما يتعلق بهويتها... لكن هنا على الفور وكما لو بفعل السحر تختفي الزوجة... لكنها لا تختفي وحدها بل يختفي معها أولادها والقصر الذي تعيش الأسرة كلها فيه. غير أن آريندال سيدرك سريعاً أن الوضع غير ميؤوس تماماً، إذ سيعرف أن في إمكانه استرجاع زوجته وحياته وداره، إن هو نجح في عبور العديد من الامتحانات والمحن التي هي - في نهاية الأمر - الثمن الذي يتعين عليه دفعه مقابل استعادة ماضيه السعيد. لكن آريندال كائن بشري ضعيف... وحتى إن كان عاشقاً لآدا، فإن عشقه لها ليس من القوة الى درجة أن يمكّنه من الثبات والنجاح. وهكذا ما أن يبدأ في خوض التحديات التي يتألف منها الامتحان، حتى يفاجأ بأن خطأ بسيطاً ارتكبه قد حوّل امرأته المحبوبة آدا الى حجر جامد... ويعلم آريندال هنا، أن من شأن آدا أن تبقى على تلك الحال مئة عام أخرى، إلا إذا تمكن هو هذه المرة من استجماع شجاعته لإنقاذها... وهنا، هذه المرة إذاً، لا يجد بطلنا مفراً من أن يمتشق سيفه ويحمل ترسه ويبدأ في خوض الصراعات وإزالة كل العقبات التي تحول بينه وبين الوصول الى المكان الحرم الذي تعيش فيه بنات الجنّ. ولما كان سيف آريندال وترسه سحريين، فإنه ينجح في مهمته ويتمكّن من إنقاذ آدا... غير أن هذا كله لا يزيل المشكلة الرئيسة التي تعترض الآن، - وستعترض في المستقبل - سعادة هذين الزوجين الحبيبين: إن آدا ليس مقدراً لها على الإطلاق أن تصبح امرأة عادية، ما يجعل من استمرارها في العيش مع رجل عادي أمراً غير منطقي. فما الحل؟ الحل، في كل بساطة، هو أن يسمو آريندال بنفسه الى مكانة أنصاف الآلهة وكبار الأبطال حتى يصبح على قدم المساواة مع حبيبته. وهو يسمو بالفعل ويعيشان معاً حياة أبدية... وذلك، كما تفيدنا الأوبرا، بفضل الحب وسحر الحب اللذين يشعر بهما آريندال تجاه آدا وتبادله آدا إياهما. > من الواضح أن ما فتن ريتشارد فاغنر، شاباً، في هذا العمل، إنما هو ذلك الإصرار الذي يبديه بطل الحكاية آريندال لإنقاذ محبوبته، أي اتباع سبيل قلبه. وتكمن أهمية هذا النوع من الحب في أنه ليس حباً طارئاً من رجل تجاه امرأة غريبة مشتهاة، بل هو حب لامرأة كان هذا الرجل يعيش معها، لكنه لم يكن يعرف أنه سيفقدها بفعل فضوله، أو فلنقل بفعل حماقته... إذاً، ليست آدا هنا امرأة يتم البحث عنها، بل امرأة مستعادة... وكان هذا البعد يمثل بعداً رومانطيقياً بالغ القوة... غير أن هذا البعد يبدو هنا أدبياً أكثر منه فنياً، أي أنه يخضع لتحليل منطقي يمارسه العقل، ومن الصعب دفع الموسيقى كفعل تجريدي الى تبنيه... فالموسيقى يمكنها أن تصور البحث عن امرأة مجهولة، بلمحات شاعرية غرائبية، أما أن تكون المرأة المنشودة كائناً فُقد بعد زواج دام ثمانية أعوام، وفُقد بفعل خطأ من العاشق المتيَّم، الذي هو الزوج هنا، فمعناه أن المسألة تتطلب قدراً مضاعفاً من الرومانطيقية، خصوصاً أن الزوج يجابه عدداً هائلاً من العقبات والحواجز والصعاب، وهذا كله يتطلب هنا مبرراً منطقياً. وهذا الواقع هو الذي جعل الباحثين يتحدثون دائماً عن أن المناخ الأدبي في «بنات الجنّ» يطغى بقوة على الجانب الفني، ما يجعل العمل يبدو أقرب الى أن يكون عملاً من إنتاج فيبر الذي كان، الى رومانطيقية أعماله، رائداً من رواد طغيان البعد الأدبي في العمل... ولقد زاد من صعوبة تقبّل فاغنر نفسه لأوبراه هذه، أنها تتشكّل أصلاً من سلسلة من المشاهد المتعاقبة، ما يتطلب سرداً موسيقياً يعصى على مؤلف شاب كان أسهل له أن يلحن عملاً فيه لحظات مكررة تسهل استخدام لوازم بعينها في تصعيد من أول العمل الى آخره... وهذا النقصان في العمل، في رأي فاغنر، هو الذي دفعه الى وضع «بنات الجنّ» جانباً. ولن يفوتنا هنا، أن نذكر أن هذه السمة نفسها ستطبع كل أعمال فاغنر المبكرة، حتى «تانهادزر» التي ستكون أول عمل كبير وحقيقي ذي بنية تكوينية موسيقية في مساره الفني. > قلنا إن ريتشارد فاغنر (1813 - 1883) حين كتب «بنات الجنّ» كان في العشرين... وهو انطلق من بعدها، بين باريس وبرلين وفيينا، في عمل لا يكل، أنتج خلال سنواته الخصبة عدداً من الأوبرات التي أحيت هذا الفن وجعلت للألمان فيه قدرة على المنافسة. ولقد ظلّ فاغنر في هذا المجال فريداً، وإن كان هو قد تحدث دائماً عن دَيْن في رقبته لبيتهوفن وفيبر.

مشاركة :