يرى المؤرخ والناقد السينمائي أشرف غريب أن في حياة محمد فوزي محنتين غاية في القسوة، ينوء بحمل إحداهما فقط أعتى الرجال، فما بالنا لو اجتمعتا لدى شخص واحد وفي فترة واحدة تقريبا، بل إن إحدى المحنتين كانت سببا في بروز الأخرى. ويضيف “المحنة الأولى كانت بطبيعة الحال قرار تأميم شركة مصر فون واستيلاء الدولة على ثروته التي ظل سنوات طويلة يعمل على جمعها تأمينا لفنه ومستقبل أبنائه، وأيضا خدمة للاقتصاد الوطني على النحو الذي بات معروفا الآن. أما المحنة الثانية فكانت الأصعب والأشد قسوة وهي تعرضه للإصابة بالمرض اللعين الذي أخذ من عمره سنواته الأربع الأخيرة، ولم يتركه سوى جسد بلا روح بعد أن تجاوز الثامنة والأربعين من عمره بقليل. مصادرة حياة يقدم غريب في كتابه “محمد فوزي.. الوثائق الخاصة” الصادر عن دار بتانة محاولة جادة ومخلصة لاستجلاء كل ما يتعلق بسيرة حياة الموسيقار والملحن والمطرب والممثل والمنتج العبقري محمد فوزي، مستعينا بمجموعة من المستندات والوثائق التي لا تحتمل الشك فيها أو المزايدة عليها. حيث لا يفصل بين سيرة الحياة والعصر اللذين عاشهما فوزي منذ ولادته سنة 1918، وآثاره الإبداعية وانعكاساتها بحلوها ومرها عليه إنسانيا وفنيا. متطرقا إلى الكثير من التفاصيل المهمة ومنها ملف امتلاكه لشركة مصر فون التي حرمته الدولة منها وهو الذي استأجر أرضها وأقام عليها مصنعا للإسطوانات وجهزه بأحدث المعدات، لتنجح نجاحا كبيرا، لكن “ذات صباح ذهب فوزي إلى شركته ومصنعه فوجد كثيرا من الجنود وحركة غير معتادة في المكان وعندما دخل مكتبه وجد رجلا يجلس مكانه ويعبث بأوراقه ويضع قدميه على المكتب في وجهه، وقد أخبره أن قرارات يوليو الاشتراكية قد شملت شركته”. ما فعله حكام ثورة 1952 لمحمد فوزي لم يكن سوى مذبحة خص بها فوزي لكونه كان مستقلا في ما يفعل ولم يكن مجرد تابع، يقول غريب “لو أن فوزي كان قد استوعب جيدا مشهد ذهاب أم كلثوم بعد أيام قليلة من قيام ثورة يوليو 1952 إلى مبنى الإذاعة المصرية من أجل التخلص من كل أغنياتها التي كانت قد غنتها للملك فاروق قبل الثورة. ونشرت مجلة الكواكب في عدد 5 أغسطس 1952 صورة وهي تفعل ذلك، لربما كان قد تجنب كثيرا مما وقع فيه لاحقا، لو كان له أصدقاء ومستشارون مخلصون وعارفون ببواطن الأمور ودهاليز ما يحدث كمصطفى أمين وفكري أباظه، اللذين أشارا على كوكب الشرق بهذا التصرف السريع، ربما تحول محمد فوزي إلى نجم هذه المرحلة الثورية، ولو أنه أحاط نفسه بشبكة من العلاقات مع قادة الدول كحال محمد عبدالوهاب وأم كلثوم اللذين تدخل الملك عبدالعزيز آل سعود شخصيا سنة 1953 من أجل عدم مصادرة أموالهما، لوفر على نفسه الكثير من المشكلات”. ويضيف غريب الذي استعرض سيرة حياة فوزي بأسلوب راق وممتع حيث يؤكد أن الفنان كان مطربا وممثلا أحب بلده وفنه، وأخلص لهما وتفرغ لخدمتهما فغابت عنه العديد من الحقائق التي كانت ضرورية لحماية مكانته. يرصد غريب كل ما قدمه فوزي لثورة 1952 من غناء ومشاركة في إحياء الحفلات والمشاريع القومية لها، حيث لم يترك حدثا وطنيا إلا وغنى له، غنى “النصر لمصر” و”أموت وتسلم أرضها” في العدوان الثلاثي 1956، و”رسالة إلى جندي”، نعم كان ذلك ميلا لمحمد نجيب ولكنه ميل لبلده وليس لشخصه، وانتهى الأمر عقب تنحية نجيب، لكن جمال عبدالناصر ومَن حوله لم ينسوا له ذلك. يقول غريب “لقد كان فوزي مساندا لمبادئ الثورة وداعما لكل توجهاتها، ولم يتخلف يوما عن التعبير عن حبه لبلده قولا وفعلا، دون أن يورط نفسه بالكلام في السياسة، لذا كان من الملفت جدا دخوله في سنوات عجاف على مستوى نشاطه الفني بداية من عام 1956 دون أي أسباب فنية مفهومة، فبعد أن قدم للسينما أربعة وثلاثين فيلما في 12 عاما بين عامي 1944 و1956 لم يقدم في سنواته العشر الأخيرة سوى فيلمين فقط، وبالتحديد عام 1959 قبل سبع سنوات كاملة من رحيله، فما هو لغز عام 1956؟ وما هي شواهد هذه السنوات العجاف؟”. يجيب غريب عن تساؤليْه الأخيرين في نقطتين أعقبهما بإيضاحات تكشف الجريمة التي ارتكبت في حق فوزي، هذا الموسيقار الحاضر حتى الآن بإرثه الفني الخالد، يقول “أولا؛ على المستوى التاريخي والسياسي كان عام 1956 عاما مختلفا في حياة الرئيس جمال عبدالناصر، إنه العام الذي شهد جلاء القوات البريطانية عن مصر في 18 يونيو، والاستفتاء على رئاسته وعلى الدستور الذي وضعه في 23 يونيو، وتأميم الشركة المصرية لقناة السويس في 26 يوليو، ونهاية العدوان الثلاثي على مصر في 23 ديسمبر. باختصار لقد خرج عبدالناصر من عام 1956 زعيما أوحد لا ينازعه على السلطة أحد، واضعا كل أعدائه ومعارضيه خلف ظهره، ومن ثم بدأ هو أو على الأقل مؤسسته الرئاسية في تصفية الحسابات القديمة مع الخصوم ومن يدينون بالولاء لهم”. ويتابع “ثانيا؛ يؤكد شهود العيان وصحف تلك الفترة أن ودا متبادلا كان يجمع بين اللواء محمد نجيب ومحمد فوزي، وهذا ما بدا من المناسبات التي شارك فيها والصور التي التقطت له في هذه المناسبات، إلى الدرجة التي بات فيها فوزي محسوبا على نجيب أحد خصوم عبدالناصر، تماما مثلما حدث للمطربة ليلى مراد، وأن عام 1956 نفسه كان بداية إجبار ليلى مراد على الاعتزال بالتضييق عليها في كل مشاريعها الفنية”. التضييق القاسي يرصد غريب مظاهر التضييق على فوزي وهي ليست مجرد مضايقات ولكن تصفية له، وقد وضع غريب هذه المظاهر في عدد من النقاط أولها إحجام الموزعين الخارجيين عن توزيع أفلام فوزي بعد الاتفاق معه على ذلك بحسب ما قاله ابنه الأكبر المهندس نبيل محمد فوزي خلال البرنامج الوثائقي “كشف المستور”، ما أرهق والده ماليا بصورة واضحة خاصة من جانب موزع أفلامه في سوريا ولبنان نديم أسبيريدون، وحتى حينما كان القضاء ينصفه لم تكن الجهات المعنية تسعى إلى تنفيذ الأحكام وإنجاز العدالة. كما فرضت الحراسة على موزع أفلامه الوحيد في الداخل شركة بهنا فيلم “بهنا إخوان” بمقريها في القاهرة والإسكندرية عام 1961 في سابقة لم تعرفها الحياة الفنية في مصر من قبل ولا من بعد. ومن ثم غُلّت يدا محمد فوزي داخليا وخارجيا في تمويل وتوزيع أفلامه بخلاف المبالغ التي تكبدها في التجهيز لهذه الأفلام. كما وقعت إثارة حالة من الكراهية بين السينمائيين تجاهه وصلت إلى حد التقليل من موهبته والتحريض عليه، ومثال على ذلك الرسالة المفجعة التي بعث بها المخرج حسين فوزي سنة 1959 إلى شركة بهنا فيلم موزع أفلام محمد فوزي التي يدعو فيها عمله بالسخيف. هكذا اكتشف المخرج حسين فوزي بعد 12 عاما من التعاون مع محمد فوزي أنه ممثل فاشل، ومحدود الموهبة، وهو الذي أخرج له من قبل فيلميه الشهيرين “صباح الخير” مع صباح عام 1947 و”يا حلاوة الحب” مع زوجته وقتئذ، نعيمة عاكف، سنة 1952، وهكذا رأى حسين فوزي أن الفيلم السابق على عرض “ليلى بنت الشاطئ” (يقصد كل دقة في قلبي) فيلم سخيف، وهكذا اعتبر إيرادات “ليلي بنت الشاطئ” سيئة بعد أيام فقط من عرضه. وقدم فوزي على مدى مسيرته الفنية أكثر من 30 أغنية وطنية أحجمت الإذاعة المصرية عن إذاعتها سواء في حياته أو بعد رحيله إلى درجة أننا أصبحنا لا نعرف من أغنياته الوطنية سوى أغنيته الشهيرة “بلدي أحببت يا بلدي”. ودون أي مبررات مفهومة أو منطقية تسببت الدولة في تعرض فوزي لأكبر محنتين في حياته الأولى أخذت منه ماله وثروته بعد موقفها من شركة مصر فون ومصنع الشرق للأسطوانات، والأخرى أخذت منه صحته وحياته حين تركته فريسة للمرض شهورا طويلة يعاني العجز والعوز حتى وفاته. يبقى أن نشير إلى أن الكتاب وثيقة مهمة لمسيرة حياة محمد فوزي الموسيقية والغنائية والسينمائية والإنسانية، هذا العبقري الذي لم يكن يبالي بشيء سوى حبه وإخلاصه لوطنه وفنه، لكن للأسف كان جزاؤه التنكر لقيمته وسلب ماله وثروته وشركته ومصنعه ومطاردته والتحقير من شأنه، والعزاء الوحيد لنا الآن أنه بقي شامخا ومن اضطهدوه ذهبوا إلى مزبلة التاريخ مشوهين.
مشاركة :