ليتك يا «أبا الطيّب»، وقد عزمت الرّحيل في طريق العودة إلى الكوفة، قد أرخيت سمعك ولو خطفًا، إلى همس صاحبك «ابن حمزة»، وقد تطيّر من جعلك «النّجاة» محشورة بين «الأذاة» و«الهلاك» في قولك: وأيًّا شئْتِ يا طُرقي فكوني أذاةً أو نجاةً أو هلاكا صدق ظنه؛ كانت رحلة «اللاعودة»، وقد كمن لك «فاتك بن أبي جهل الأسدي» في صحراء العاقول، فأرداك قتيلًا ثمة.. كم مرّ على تلك الحادثة..؟ أتقول أكثر من 1058 عامًا.. ! ألا ما أبعد اليوم عن تاريخ مصرعك في رمضان من العام 354هـ الموافق للعام 965م.. يحزنني يا «أبا محسد» أنهم بقدر اهتمامهم العظيم طوال هذه المدة الطويلة بشعرك، إلا أن القّلة قد اهتمت بموضع قبرك، ليكون شاهدًا على عبقرية طمرت في جوف التراب.. الوقت حمّارة الصيف القائظ كما ترى.. اخترته عن قصد لأطوف في تلك الأرجاء بحثًا عن قبرك؛ متماهيًا مع ما أظنه الجو الذي قتلت فيه، الطقس في هذه الصحراء يتشبث بليل بارد زمهرير، تنفك قبضته شيئًا مع طلعة الشمس واستعارها قيظًا في واسطة النهار.. سأتبع - ما أمكنني - الخريطة التي حبّرها الباحث يوسف أحمد الشيراوي في كتابه «أطلس المتنبي» وتعقّب فيها رحلتك حتى مصرعك.. خريطة لم تسلم من وخز النقّاد، ونظر الباحثين.. سأستعيض عن ضجيج اختلافهم بصدى صوتك وهو يملأ خاطري الآن في هذا المكان: أَلِفتُ تَرَحُّلي وَجَعَلتُ أَرضي قُتودي وَالغُرَيرِيَّ الجُلالا فَما حاوَلتُ في أَرضٍ مُقامًا وَلا أَزمَعتُ عَن أَرضٍ زَوالا عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي أُوَجِّهُها جَنوبًا أَو شَمالا لئن كنتَ «يا أبا الطيب» في حياتك على قلق في ارتحالك، فلم تهنأ بمقام، فقبرك نفسه لم يستقر على مكان.. الأدلاء من رُصّاد التاريخ يشيرون إليَّ بقبر ناحية الشمال من بلدة النعمانية، في مكان موحش يعاني الإهمال، وقفت عليه بخاطري.. وردّدت قولك في أسى: أما في هذه الدُّنيا كريمُ تزولُ بهِ عن القلبُ الهُمومُ أما في هذه الدّنيا مكانٌ يُسَرُّ بأهلِهِ الجارُ المقيمُ تَشَابهتِ البهائمُ والعِبِدّي علينا والموالي والصّميمُ وما أدري أذَا داءٌ حديثٌ أصابَ النّاسَ أمْ داءٌ قديمُ ها قد طرقت سمعي روايات أخرى تدّعى أن مصرعك كان في بلدة «جصان» في الشرقي من «كوت»، لكن ما فتئت تعارضها رواية أخرى ترى أن قبرك كائن في «تلول العزيزية»، شمالي كوت وليس شرقيها على بعد 80 كيلومترًا.. آخرون كانوا أكثر رحمة إذ حملوا قبرك، في ادعائهم، وجعلوه على ضفة نهر دجلة في «واسط» على بعد (180) كيلومترًا عن بغداد، وشيّدوا هنالك بناية نصبت عليها قبّة مرفوعة بعُمد ستة، وزادوا في الحفاوة بأن ألحقوا بالبناية سبع قاعات خصصوها لأنشطة ثقافية، تناسب مكانتك فيهم، وحظّك من الذّكر بعد الموت في مهرجان سنوي يقام باسمك.. ما بي من حاجة إلى ترصّد بقية المواقع التي اختلفوا حولها، وزعموا أن رفاتك مستقرة في جوف ثراها، فمن اختلفوا في شعرك قديمًا، فلن يتفق حفدتهم على موضع قبرك لاحقًا، ألست من ألقم المختلفين والمتعاورين في فهم شعرك، حجرًا بقولك: أنامُ ملءَ جُفوني عن شوارِدها ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصمُ لا تبتئس يا «أبا الطيّب»؛ فهذا المكان يناسب صيتك ومكانتك شيئًا ما، وقد يمنحك بعض العزاء.. فهلا نهضت يومًا من هذا «المرقد» المزعوم، وقرأت على شهود مهرجانك، أو زوّار قبرك، قولك في تيه المعجب الواثق بفنه وشعره: أوضحتُ من طُرُقِ الآداب ما اشتكلتْ دهرًا وأظهرتُ إغرابًا وإبداعا وهلا أعدت على الأسماع مرّات وكرّات ما يقدح في روعهم روح التحفّز، وبواعث الهمة، وأنت الذي أنشدتها قديمًا: ليسَ التعلّلُ بالآمالِ من أرَبِي ولا القناعةُ بالإقلالِ مِن شِيمي ولا أظنُّ بناتَ الدِّهر تترُكُني حتّى تسدَّ عَلَيها طُرقَها هِمَمي أعلم علم اليقين أنك حانق على العميد «طه حسين»، وآرائه الرادكالية التي أودعها بطن كتابه «مع المتنبي»، وقد بلغ الغاية من الكُره في سياق قوله: «إني لست من المُحبين للمتنبي ولا المشغوفين بشخصه وفنّه، فلم أجد بأسًا فِي أن أشقَّ على نفسي أثناء الراحة، وأثقل عليها حين تبغض الإثقال عليها... لم أجد بأسًا بأن أثقل على نفسي أثناء هَذَا كلّه بالتحدُّث إلى المتنبي والتحدُّث عنه، والاستماع له، والنظر فيه، والناس يعرفون أني شديد العناد للناس، فليعرفوا أَيْضًا أني شديد العناد لنفسي كذلك».. خفّف عنك يا «أبا الطيّب» فقد انتصر وانتصف لك الأديب العالمي الطيب صالح في كتابه الرائع «في صحبة المتنبي ورفاقه»، أما قرأت رده على العميد طه حسين وقد جاهر بكرهك فرده ردًّا جميلاً، بقوله: «رحم الله العميد وغفر له، لقد أخرجته البغضاء للمتنبي عن طوره تمامًا، وجعلت بينه وبين الشّاعر حجابًا مستورًا، ولكنها بغضاء مثل الحب، فالعميد رحمه الله، شأنه في ذلك شأن الشريف الرضي والصاحب بن عبّاد وكثيرين إلى يومنا هذا، حالهم «حال المجمعين على الحمد».. لا عليك يا «أبا محسّد»؛ فقد صدقت حين أطلقتها داوية: وَمَن تَفَكَّرَ في الدُنيا وَمُهجَتِهِ أَقامَهُ الفِكرُ بَينَ العَجزِ وَالتَعَبِ والى لقاء قادم قريب فى رحلة أخرى عن الشاعر العظيم أبو الطيب المتنبى.
مشاركة :