يدخل الاشتباك الانتفاضي الفلسطيني مع الاحتلال شهره السادس، محافظاً على مظهره العام من أعمال الطعن والدهس وإطلاق النار والزجاجات الحارقة، وأشكال أخرى للمقاومة الشعبية. لقد فشل بطش الاحتلال في إخماده. والتقديرات الأمنية الإسرائيلية هي أن الانتفاضة ستستمر، بخلاف ما قاله وزير حرب الكيان، رابين، غداة اندلاع انتفاضة 87: سننهي أعمال الشغب خلال أيام، حيث لم تكن مفردة انتفاضة حاضرة، آنذاك، في حسابات قادة الاحتلال وتقديراتهم. ومساعي واشنطن السياسية لوقف هذا الاشتباك الميداني أخفقت، وسوف تخفق، ما دام هدفها إجهاضه لمصلحة استئناف مسار مفاوضات لم يبقَ منها سوى أرباح الاحتلال، والتغطية على سياساته الاستيطانية التهويدية العدوانية المتصاعدة، فضلاً عن الانقسامات الداخلية التي ذهبت إلى مديات تفوق التصور، الدينامية التفكيكية للأهداف والخريطة والحقوق والشعب. وكل هذا بات معروفاً، ولم يعد سجالياً بين اجتهادين، مع وضد. ومناورات تخدير المنتفضين برشى تحسين الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية للفلسطينيين، لم تفلح، ولن تفلح، ما دامت تتجاهل حقيقة أن المحرك الأكبر للغضب الفلسطيني هو وجود الاحتلال واستباحاته الشاملة التي باتت تتخذ طابعاً فاشياً صريحاً. فمن عمليات الإعدام الميداني، واحتجاز جثامين الشهداء، وهدم بيوت عائلاتهم، وترك الجرحى ينزفون حتى الموت، والتنكيل بالأسرى، إلى نشر آلاف وآلاف الجنود في الضفة، (3500 شرطي في القدس وحدها)، إلى إقامة سور ترابي على حدود قطاع غزة المحاصر، وإطلاق النار على المتظاهرين عند بواباته، رغم أن حجارتهم لا تصل أهدافها، إلى أن يصبح نظام الآبارتهايد، (أي هيمنة فئة من عرق على فئة أخرى من عرق آخر، حسب التعريف القانوني للأمم المتحدة)، مجرد مزحة قياساً بالتمييز العنصري الذي يتعرض له "فلسطينيو 48". 5 هنا، يتبين ما يحمله هذا الاشتباك الانتفاضي الميداني المستمر من رسائل سياسية مهمة وكبيرة، أولاها، وأهمها، أن الشعب الفلسطيني في مجمله، قد ضاق ذرعاً بكارثة الانقسام وخدعة أن مسار أوسلو سيفضي لدولة فلسطينية، لا يوجد حزب صهيوني واحد في وارد الاعتراف بها، ولو على حدود 67. فحزب العمل الصهيوني المعارض، تخلى، في الآونة الأخيرة، حتى عن تأييده النظري، لما يسمى حل الدولتين، بحجة مصاعب تطبيقه، وطرح خطة انفصال من طرف واحد للتخلص من سكان القرى الفلسطينية المحيطة بالقدس الشرقية، بوصفهم خطراً ديموغرافياً على، (ما تسميه الأحزاب الصهيونية كافة)، القدس الموحدة والعاصمة الأبدية لدولة إسرائيل. أما برنامج حزب الليكود الحاكم بائتلاف مع أحزاب صهيونية علمانية ودينية أشد منه تطرفاً وفاشية، فكان ولا يزال: (سلطة واحدة من البحر إلى النهر). وهذا ينطوي، بلا ريب أوشك، على أن قادة الكيان مستمرين في إنكار وجود الشعب الفلسطيني، تأسيساً على إيديولوجيا أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وأين هو الشعب الفلسطيني. ما يعني أن الصراع لا يزال في مربعه الأول، وأن الشعب الفلسطيني لا يزال يواجه التحدي الوجودي، (لا السياسي فقط)، الذي نجم عن، وترتب على، نجاح الحركة الصهيونية في إنشاء، وتوسيع حدود، كيانها الغاصب إسرائيل. فهذا الكيان الذي يمعن في سياسته الهجومية الفاشية التي يلمسها كل فلسطيني على جلده وروحه ومستوى معيشته، ويرفض حتى وقف الاستيطان، وإطلاق سراح الدفعة الرابعة من قدامى الأسرى، لقاء استئناف المفاوضات، لن يقبل طوعاً ما يسمى حل الدولتين، فما بالك أن يقبل تطبيق قرارات الشرعية الدولية حول (العودة والدولة وتقرير المصير). أما إجبار هذا الكيان على إنهاء احتلاله ل مناطق 67، فغير وارد، طالما أنه مشروع رابح، وثمنه المدفوع ليس كبيراً، ويمكن مكابدته. ما يعني أن النضال الفلسطيني قبل 67، وبعد 67، قبل أوسلو، وبعد أوسلو، لم يجرِ استثماره سياسياً، بصورة سليمة تجبر الاحتلال على الرحيل بمظاهره السياسية والعسكرية والأمنية والاستيطانية والاقتصادية. فحتى عندما أُجبِر الكيان، تحت الضغط، على إخلاء قطاع غزة، استبقى السيطرة على حدوده وسمائه وبحره، واندفع بصورة جنونية، ووتيرة غير مسبوقة، لاستكمال ابتلاع ما تبقى من الضفة، (خصوصاً منطقة ج التي تشكل 60% من مساحتها)، وتهويد القدس. لكن الشعب الفلسطيني الذي لم يعرف الاستسلام، ولم يكف عن القتال، ويتمتع، (كأي شعب يخضع لاحتلال أجنبي)، بوطنية متقدة، ونفس طويل، استعاد زمام المبادرة، وأطلق، بوحدة ميدانية، اشتباكه الانتفاضي المستمر مع الاحتلال، وأعلن، جهاراً نهاراً، أن ثمة خياراً آخر غير خيار أوسلو. كأنه يقول لقيادته، ولأمته، هنا الوردة، فلنرقص هنا. ali-jaradat@hotmail.com
مشاركة :