بين آبل وإف بي آي: أية معركة هذه؟

  • 3/6/2016
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

قصة هذا الفصل من المعركة بين الشركة العملاقة ومكتب التحقيقات الفيديرالي الأميركي صارت معروفة. جهاز هاتف آي فون 5 S العائد إلى أحد إرهابيي هجوم سان برناردينو وقع بيد الشرطة، وهي عاجزة عن الدخول إليه لأنه مقفل برقم سري. قاضية في محكمة ولاية كاليفورنيا أمرت الشركة بتوفير «مساعدة معقولة» للمحققين، واعتدّت بمادة من قانون تأسيسي مصاغ عام 1789، تتعلق بالحكم في حالات غياب النص القانوني (All Writs Act). آبل تقول أن برنامجاً كهذا لا وجود له اليوم أولاً، وأن اختراعه شأن خطير ثانياً لأنه يفتح بوابة مواربة للاعتداء على خصوصية المستخدمين وسلامتهم، بما يتجاوز مسألة المعلومات الخاصة بإرهابي محدد. في الخلفية ما يتخطى هذه المقدمات، وما يتشعب منها، وما تستحضره كذلك: هناك أولاً «سوابق» لإف بي آي، طلبات مشابهة بالعشرات من دون أن تتعلق بالإرهاب. فقد سرّبت الصحف أن مئات الهواتف من ماركات أخرى فتحت. بينما رفضت آبل في 2014، 12 طلباً، آخرها يتعلق بفك شيفرة آي فون تاجر مخدرات، وأيدت رفضها منذ أيام محكمة نيويورك برئاسة القاضي أورنستين، الذي قرّع محامي الشركة قائلاً: «يبدو أنها رضخت في الماضي لـ70 طلباً كهذا» كانت تتعلق بـ «هواتف ذكية» أقدم وأقل إحكاماً لجهة إقفالها. قرار محكمة نيويورك أضعف قرار محكمة كاليفورنيا ذاك، ولو أنها محاكم مستقلة، بمعنى أن حكم إحداها لا يؤثر قانونياً في سواه، وإنما يشكل اجتهاداً يُعتد به في المعركة الدائرة. وهناك أيضاً ما يُسرّب عن «تعديل» آبل الأجهزة التي تصنِّعها للبيع في الصين، كسوق ضخمة لهواتفها وسائر منتجاتها، بحيث لا تمتلك الخاصيات المحْكَمة ذاتها، علماً أن من بين أبرز الحجج المُساقة من جانب الشركة والمناصرين لقرارها بالامتناع عن خلق البرنامج الذي يطلبه إف بي آي (والذي يعطل القفل ويسمح بالتسلل إلى المعلومات من دون تعريضها للامّحاء)، مثل الأنظمة القمعية والمستبدة التي تنتظر الفرصة السانحة لتتعقب ما يهمها لدى مستخدمي الهواتف، متجسسة عليهم، ما يمكنه أن يُعرِّضهم لأخطار جسيمة. والمضحك أن مكتب التحقيقات الفيديرالي في مطالعاته حول الموضوع يقول أنه سيسدد للشركة أتعابها مقابل اختراع مثل هذا البرنامج، وأنه لا يريد امتلاك البرنامج المذكور وإنما استخدامه في الحالة المحددة، ثم تمكن الشركة إزالته وتدميره (وهذا غير واقعي، إن لم نقل أنه كذب يهدف إلى إقناع الناس بحجج تبدو بديهية ومفهومة، فمتى وُجد البرنامج فلن يزول، ولا شيء يمنع قرصنته في أشكال مختلفة...). بل يقول إف بي آي أن الشركة لا تخوض حرباً حول المبادئ والأخلاق وإنما هي في الواقع تدافع عن التميز التقني لإحدى بضائعها وتحفز لهذه المناسبة مبيعاتها واستراتيجيتها في السوق (انتبهوا: هذا خطاب يساري! أين ذهب إله النقود؟). ثم تُخفى كالعادة في معمعة محاربة الإرهاب الأخطاء المرتكبة: في الساعات الأولى التي تلت وقوع الهجوم الإرهابي، طُلب من مدير المؤسسة التي كان يعمل فيها سيد فاروق، أن يدخل إلى «غيمة» الهاتف (الذي تملكه هي) لتوفير المعلومات للشرطة، وهو ما فعله، لكنه تسبب بتعطيل مداخل أخرى للمعلومات المتاحة على «غيمة» الهاتف. وعلى أي حال فما يقال بصورة مؤكدة أن لا أهمية حقيقية للأسرار المحتملة المتبقية، والتي تخص فاروق وزوجته، وهما حديثا العهد في انتمائهما إلى منظمة إرهابية، إن كانا انتميا حقاً أصلاً، ولم يبادرا إلى فعلتهما التي سهلها شيوع السلاح بيد الأميركيين، وأن القصد من إصرار إف بي آي هو كسب حق يستخدمه كما يشاء. وهذا علماً أن آبل طورت البرامج المتعلقة بإحكام سرية «آي فون» و «آي باد» بعد واقعة إدوارد سنودن في 2013 الذي كشف لصحيفتي «غارديان» و «واشنطن بوست» برامج تجسس واسعة النطاق، منها (Prism)، تستخدمها «وكالة الأمن القومي الأميركي» NSA، حيث كان يعمل في أمن البرمجيات، كما أشاع معلومات خطيرة، بينها لائحة الموضوعين على قائمة التنصت والتجسس من بين رؤساء الدول الحليفة لواشنطن. فشهية وكالات الاستخبارات والسلطات لا تخص الحيز الإرهابي إذاً. ثم، وكما قال مسؤولو آبل، فلو حصل التساهل هنا، ما الذي سيمنع جهات متعددة من الاطلاع على الحسابات البنكية وعلى الإضبارات الصحية للناس إلخ، لأغراض لا دخل لها بالأمن القومي ولا حتى بالسياسة، بل بالحياة العادية، من توظيف وتأمينات ومعاملات وحتى صراعات شخصية؟ يتبقى الكثير للقول والنقاش حول ما تثيره هذه المسألة في العمق، لجهة تعريف الحريات العامة وحدود حقوق السلطات والأفراد، ولجهة ما يثيره أي اختراع تقني كبير من أسئلة جديدة على المجتمعات الإنسانية، بحلو هذه الأسئلة ومرِّها (كالقول الصحيح تماماً مثلاً، وفي مجال آخر، أن الإنسان بوجود الطائرات لم يعد «يسافر» بل صار «ينتقل»، لكنه بالمقابل تعرَّف إلى العالم بأسره الذي أصبح في متناوله بيسر نسبي)، ولجهة الكذب والتحوير الشائعين بين أطراف متصارعة (في هذا المثل وفي سواه) بغاية تجاوز العقبات وتحقيق الكسب أو الغلبة، اتكالاً على الغفلة التي يعلم مستغلوها أنها آنية وستنكشف، لكنهم لا يبالون لأن حوادث أخرى ستطويها حينئذ، ولأن المعايير مهتزة بناء على المجاهرة بما يسمى البرغمائية (إله آخر!). وهذا نقاش فلسفي يتعلق بأسس المنظومة السائدة ومعاييرها وقيمها، ومقدار ما تُنابِذ طموح البشر إلى الأفضل... لكن، هناك من ضمن النقاط المباشِرة الملحوظة، الاستخدام الشعبوي للحادثة ذاتها. دونالد ترامب الذي بات مرشحاً جدياً للرئاسة بعد «الثلثاء الكبير» الفائت، يدعو المواطنين إلى مقاطعة منتجات شركة آبل! طالب ترامب الشركة بفك شيفرة الهاتف، قائلاً لمتابعيه عبر حسابه على تويتر: «أعتقد أن ما عليكم فعله هو مقاطعة منتجات آبل إلى أن تكشف هذا الرقم السري، هذا ما فكرت به الآن»! بينما قال السيناتور الجمهوري توماس كوتن من ولاية أركنسو، أحد معاقل الدفاع عن إباحة امتلاك الأفراد السلاح كحرية شخصية، وحفاظاً على تقاليد «نمط الحياة الأميركي»: «آبل اختارت أن تحمي خصوصية إرهابي ميت ينتمي إلى داعش على حساب أمن الشعب الأميركي»... حجة الأمن دائماً مشبوهة!

مشاركة :