القاهرة الخليج: أذكر أني كنت صغيراً جداً، عندما أصبت بالبلهارسيا أجل نشأت في قرية، قرية صغيرة تقطعها ترعتان، قرية تقوم بين ترعتين يسافر ماؤهما إلى الشمال ولا يعود - كم انتظرت أن يعود - وبيت جدي بينهما، ها هنا كل صباح كنت ألتقي بالأحلام المطلة من بعيد، كنت طفلاً يأمل ركوب صهوة الموج، وينطلق إلى عنان الغد، يتطابق شكل هذا الصباح بشكل كل صباح، وأعرف أن للجنة منفذاً قد لا يستبصره قلبي اليوم، إنما سوف يحدث، أبحث بعيني عنه في الجوار، بين سباطات النخل المتدلية وأربطة الشفق التي تكمم فم السماء. ذلك مدخل يصلح لأن يمثل العتبة الأولى ل زيارة ثقافية تقوم بها الخليج للروائي أدهم العبودي حيث كانت الشمس تشرق وتغرب في جحود، فيشعر بالضجر يلف سهامها الذهبية المغروسة في لب ماء الترعتين، دون مراوغة مسيرة زمن جامد الوجه، بعدها بات عمره كله أحلاماً مؤجلة، تسافر عيناه مع الزروع الطليقة بعد ضفتي الترعتين شرقاً وغرباً. يقول العبودي: تبدو حواف الأفق البعيد متعرجة عابسة، يتشبع الهواء برطوبة تكتم الأنفاس، وتبزغ تشكيلات من الطيور من قلب نقطة على الحد الواصل ما بين الأرض والسماء، لكنها سرعان ما تحلق عاليا وكأنها تزيح عن كواهلها عبء النهار، تطير نحو الفضاء تختال بتحررها، تهاجر إلى مكان أكثر راحة، تقترض عقلي وتخيلاتي، أطير معهم في الجمع بجناحين ضامرين، أعانق صفاء الأفق واسترخاءه، أرى قريتي مجرد فجوة معتمة في براح الدنيا، فجوة تتضاءل كلما حلقت مبتعدا، شظايا المشاهد الملقاة تحتي كبقايا من خيال استعاد تأنقه، أودعها بنظرة متألقة، وأمخر عباب الهواء العليل وجناحاي يرفرفان بوداعة واستكانة. كان بيت جده الذي نشأ فيه يطل على إحدى الترعتين، وكان أحد أخواله لا يحلو له تعليمه، هو وآخرون، السباحة إلا في مجرى الترعة الضيق، وهناك تعلم العبودي السباحة، إنما - وبعد إصابتي بالبلهارسيا - قرر أبوه أن يحد من زيارته للقرية، وعاد ليسكن المدينة ثانية، وهناك التحق بالمدرسة الابتدائية، وكان أبوه يكافئه عند حصوله على درجات عالية بشراء المجلات: ميكي وسمير وماجد وغيرها، لكن المجلة التي كان لها تأثير عظيم في تكوين العبودي هي السلسلة الخضراء، وكانت مقررة في هذه الفترة الدراسية. يوضح العبودي: أذكر قصة عقلة الأصبع ومدينة الشمع كانت قصة ملهمة، درجتني شيئاً فشيئاً لقراءة نبيل فاروق وقتذاك، كانت شخصية أدهم صبري، أو رجل المستحيل، فارقة في تشكيل وعينا من جديد، وكانت خطوة لقراءة أدب يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس، وأذكر أني لما شارفت على الانتهاء من المرحلة الثانوية، كنت قد قرأت كل روايات نجيب محفوظ وتيمور والمنفلوطي وباكثير وعبد الحليم عبدالله ويوسف إدريس. في الجامعة كانت مرحلة أخرى، مغايرة، هي مرحلة أمل دنقل والسياب ودرويش والمتنبي وغيرهم، ومع ذلك كانت مرحلة ملأى بالتحولات، لم تكن لدي إمكانية ابتياع كل ما تصبو له روحي من كتب، فكنت أجلس بالساعات الطويلة في المكتبة فقط لأقرأ، كان لدي آنذاك شغف غير مسبوق لالتهام الأوراق، أجل هو وعي مختلف عما سبق. بدأ العبودي الكتابة مبكرا، كان يكتب القصص ويمزقها، والتحق بأحد نوادي الأدب، وهناك كتب الشعر على استحياء، ظل لسنوات يكتب الشعر، وفي مصادفة قدرية قابل بهاء طاهر قرأ له قصة، فأشاد بها، وقال له: دعك من الشعر.. أنت سارد. تبدل مسار كتابته، كتب مجموعة جلباب النبي وحصل بها على جائزة إحسان عبد القدوس سنة 2011، ثم رواية باب العبد، و تأكد بعدها أن طريقه في كتابة السرد، وليس الشعر، من وقتها لم يكتب شعرا، كان مشروعه الحقيقي في السرد؛ الرواية على الأخص، حصل على جائزة اتحاد الكتاب المصريين بعدها بعام، وأصدر روايات الطيبون ومتاهة الأولياء والخاتن أصبحت الكتابة أولوية مطلقة بالنسبة له، وكانت كل خطوة إلى الأمام تأتي قدرا، ترجمت رواياته لأكثر من لغة: الألمانية والهندية والفارسية، وتترجم حاليا للفرنسية، تخبط كثيرا بين دور النشر، دفع نقوداً باهظة لأجل نشر رواية متاهة الأولياء وقرر ألا يكرر هذه التجربة. يوضح العبودي قال لي أبي قبل أن يموت: - لن تدفع نقودا بعد ذلك.. سيطلبونك ويدفعون لك. وهذا حدث فعلا، فأرفع وجهي إلى السماء، أتذكر أبي رحمة الله عليه. عندما كان أبي يحملني فوق كتفه، ويسير بي متجها لبيتنا، لم يكن يبالي، كان الجيران ينهرونه، وكان يعنفهم، يقولون له: كفاية دلع. فيقول: وما لكم أنتم؟ كان أبي مديرا لبنك تنمية وائتمان زراعي، كثيرا ما كان يأتيه المزارعون بأقفاص الفاكهة والخضر، يبتسمون في وجهه بحفاوة عجيبة، وكان يعرف نواياهم، فكان لا يسمح لهم حتى بدخول بيتنا، فيعودون من حيث جاؤوا، وأقفاصهم على ظهورهم، وحينما كنت أندهش متسائلا، كان يضحك في غبطة شديدة، ويضع يده على كتفي، ويهمس لي: - إنما هم لا يريدون أكثر من قرض، تعلم يا ولدي ألا تضع نفسك قيد مساومة، لا تدع أحداً يقايضك على شرفك، إذا فقد الرجل شرفه، فقد قيمته أمام نفسه على الأقل. رباه أبوه إذاً على نهج الرجولة، الذي لا يعرفه الكثيرون، كان يحكي له كيف أن الأسد يمشي وحيداً لا يبالي، لأنه لا يخاف، أما هؤلاء؛ الذين يسيرون جماعات، فهم مجرد جماعات من الضباع، التي تتغذى على بقايا مأدبته، وحين تتكاثر على الأسد، وتهاجمه، يكفي زئيره كي يخضعهم جميعا ثانية. يقول: لعل أبي كان شريفا، من هؤلاء الذين يمنهجون حياتهم وفقا لما تربوا عليه، ولعلنا نخطئ، جميعنا نخطئ، أذكر حين وقعت أمي فريسة المرض، وكان ذلك لما خالفت رغبتها، وتقدمت كي أتزوج من واحدة على غير رغبتها، يوم خطبتي، سافر معي أبي، قال لي: إن لم يدعمك أبوك فعليه أن يموت، لا خير في أب لا يشارك أبناءه أفراحهم حتى لو كانوا مخطئين.. يوما سوف تتعلم يا ولدي.. وحينها سوف تضحك كثيرا على الأخطاء التي ارتكبتها عرضا. يوم خطبتي، أصيبت أمي بجلطة، قالت لإخوتي لا تخبروا أدهم دعوه يفرح بيومه، دخلت أمي المستشفى، كان ذلك منذ تسع سنوات، من يومها لم تمش على قدميها ثانية، من يومها وأمي عمياء، لم أكن أعرف إن كان هذا عمى المرض أم عمى الإحباط؟، تهدمت أحلامها في لما خالفت قواعد تربيتها لي. وبلغة حزينة يواصل العبودي نشيجه: عدت وأبي من رحلة سفر قصيرة، رأيته يقف على رأس أمي ويبكي، كما يبكي الأسود، تماما، من بعدها تدهور، حمل نفسه الذنب، أجل، ما كان له أن يطيع رغبتي على حساب أمي، أمي طريحة الفراش، وأبي طريح الذنب، يا ربي! أهكذا كنت مؤثرا في حياة أبوي؟، لم يعد أبي يضحك بعد ذلك، ولم تعد حياتنا مبهجة كما كانت، كان أبي يأكله المرض، فجأة، إلى درجة أن عقله غاب، وكنت أجالسه أتأمل في ملامح وجهه، إلى أي حد يشبه الشبل الأسد؟ كنت أقص له شعره، وكان يتناثر من حولي بريقه، وفي اليوم الذي مات فيه، ساد الضباب حياتي، اتصلوا بي قائلين: البقاء لله. نعم يا أبي، أنت برج الأسد، وأنا برج الأسد. والغابة فسيحة، مظلمة، مليئة بالضباع، ما ألعنها! نعم يا أبي، أنا تاريخ من الإحباطات المتوالية. بالأمس حلمت بك، بالأمس عاجلتني بضمة فريدة، إني اشتقت إليك، وإني من دونك أسد مشاع للضباع. أنت هناك، ترى.. هل هناك هذا أكثر رحمة ورفقا بنا حقا؟ علمني أبي ألا أبالي.. لكني أبالي.
مشاركة :