في مطلع الثمانينات الميلادية تمكنت المملكة من تنفيذ برنامج طموح لزراعة القمح، وتوسّعت في تحفيز المزارعين والمستثمرين والشركات من خلال منح الأراضي الزراعية، القروض الميسرة، الإعفاءات، وضمانات شراء الحكومة لمحصول القمح بأسعار تحفيزية تفوق أسعاره العالمية، ما ساهم في انتشار زراعة القمح في جميع مناطق المملكة، حتى تحولت أجزاء من الصحراء القاحلة إلى حقول خضراء أسهمت في إنتاج ما يكفي لتلبية الاحتياج المحلي وتصدير الفائض منه. وبالرغم من أهمية البرنامج، ومساهمته في تحقيق جانب مهم من الأمن الغذائي، إلا أنه أُوقف بسبب مخاطره المرتفعة على مخزون المياه الجوفية، وانحرافه عن هدفه الرئيس بعد أن تحول من قِبل البعض إلى أداة للإثراء السريع وتملك الأصول. قصة نجح صنعتها المملكة بجهودها الذاتية، غير أن فصولها لم تكتمل لأسباب ربما ارتبطت بالإستراتيجية التي لم تأخذ في الاعتبار التحديات المائية والبيئية والاقتصادية والمالية، ومتطلبات الاستدامة. تجربة ثرية وخبرات متراكمة كان من المفترض تطويرها ومعالجة تحدياتها والبناء عليها وفق رؤية إستراتيجية حصيفة. ومع إطلاق رؤية السعودية 2030، عادت برامج التطوير العلمية والعملية، والاستثمارات النوعية الموجهة لخلق قطاع زراعي متكامل يحقق أهداف الأمن الإستراتيجي وفق رؤية واضحة وبرامج وأهداف محددة، واستثمار للتكنلوجيا الحديثة التي تعتبر من أهم الممكنات الداعمة لتحقيق الأمن الغذائي. ركزت الرؤية على تحقيق الأمن الغذائي من خلال تنويع مصادره، فبالإضافة إلى أهمية تحقيق النسبة الأكبر من الاكتفاء الذاتي المحلي، عززت المملكة استثماراتها الزراعية في الدول ذات المقومات الزراعية الجيدة، ودخلت في شراكات عالمية واستثمارات مع الشركات الزراعية والغذائية الكبرى في العالم. التركيز على الإنتاج المحلي وتطوير القطاع الزراعي بات من الأولويات، مقارنة بالمصادر الأخرى، حيث أثبتت المتغيرات الطارئة ومنها جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية أهمية الإنتاج المحلي في منظومة الأمن الغذائي. وكالة «بلومبرج» العالمية، أشارت في تقرير لها إلى توجه المملكة نحو خلق مناخ اصطناعي للزراعة في منطقة بالقرب من نيوم، حيث سيتم بناء منشأتين لاختبار إمكانية تأمين محاصيل زراعية على مدار العام، من خلال توقيعها اتفاقية مع شركة Van Der Hoeven التي تمتلك تكنلوجيا متطورة في الزراعة العمودية والبيوت البلاستيكية والزجاجية في هولندا. الاستثمار الزراعي في «نيوم» جاء متوافقًا مع رؤية سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان للمنطقة، وخلق نموذج زراعي قائم على التكنلوجيا الحديثة، تُراعى فيه المتطلبات الاقتصادية، الإستراتيجية، البيئية، وحماية مصادر المياه. معالجة معضلة المياه في مشروعات نيوم الزراعية، من خلال نظام تبريد بالطاقة الشمسية ومياه البحر الأحمر، من التقنيات المهمة التي يمكن استنساخها في مناطق المملكة. التقرير أشار إلى أن المنطقة الزراعية المستهدفة ستلبي الاحتياجات الغذائية لمدينة نيوم. وهذا أمر مهم من الناحية الإستراتيجية، فمن الأفضل التركيز على احتياجات المدينة أولاً، ومن ثم التوسع مستقبلاً وفق الإمكانات المتاحة، والقدرة الإنتاجية والتسويقية واللوجستية. قد يكون تعزيز الإنتاج الزراعي المناطقي وفق المقومات المتاحة، من أهم متطلبات تحقيق الأمن الغذائي واستدامة الإمدادات، وسهولة وصولها إلى السوق والمستهلكين، ما يضمن لها سوقًا رائجة، على مدار العام. تقرير بلومبيرج أشار إلى توقيع السعودية اتفاقيات مع شركات عالمية ومنها شركة أميركية متخصصة للمزارع الداخلية العمودية وواحدة من أكبر الشركات البرازيلية المتخصصة في إنتاج الدواجن وشركة هندية متخصصة في زراعة الأرز، ما يشير إلى نوعية المنتجات الزراعية المستهدفة محلياً. المملكة ليست بلدًا زراعيًا، وتعاني من شح الموارد المائية، غير أنها قادرة من خلال رؤيتها، وبرامجها المتخصصة، واستثمارها في التكنلوجيا الزراعية، وإمكاناتها المالية، أن تخلق قطاعًا زراعيًا متكاملاً، يعتمد التكنلوجيا الحديثة في الري والزراعة، يؤمن لها احتياجاتها الغذائية، ويسهم في تحقيق أمنها الغذائي. التركيز على سلة غذاء رئيسة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، أو ما لا يقل عن 60 في المائة منها، وتوجيه الاستثمار الزراعي نحو البيئات المناسبة في مناطق المملكة، وتعزيز الإنتاج الزراعي الحالي، ومعالجة تحدياته، والتوسع في منظومة معالجة المياه واستخدامها في الري، من الأدوات الرئيسة لتحقيق هدف الأمن الغذائي في المملكة. مدينة نيوم، هي نواة المدن الذكية في العالم، وجوهرة مشروعات رؤية السعودية 2030 الكبرى، ومن المتوقع أن تكون المنطقة الزراعية فيها نواة الاستثمارات الزراعية النوعية المحققة لمناخ اصطناعي يعتمد تكنلوجيا وآليات الزراعة الحديثة المعالجة للتحديات المائية والزراعية.
مشاركة :