كالعادة، وعلى كثرة الأحداث الأمنية والأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تنهمر تكراراً على رؤوس اللبنانيين، لن يتاح للشعب المكلوم «رفاهية» استيعاب كل المخاوف والتداعيات الخطيرة المتصلة بحادثة «كوع الكحّالة»، إذ سبق له- تحت وطأة إلهائه بتأمين لقمة العيش- أن تخطّى أهوال ونتائج عشرات، وربما مئات، الأحداث والتفجيرات والنزاعات المتعددة الأشكال والأغراض والظروف! شيء وحيد يبقى حاضراً بقوة في مثل هذه المفترقات الخطيرة التي تهّز الكيان اللبناني، ألا وهو التكسّب السياسي بالتأييد من جانب وبالتنديد من جانب مقابل، والنتيجة واحدة: تجييش طائفي، وتكاذب سياسي يخفي صراعاً على السلطة وتقاسماً للمنافع وتوزيعاً للمناصب على حساب مصلحة الجماهير المغرّر بها وحقوق الشعب الذي تتحكم بمواقفه ومساراته غريزة البقاء. فإذا ما تجاوزنا القراءة الموضوعية والهادئة لسلبيات مثل هذا الحدث الأمني وتأثيره الحتمي على ارتفاع منسوب الهواجس ولهجة التخوين المتبادل، لا يمكن أن ننكر أنه في كل مرة يحتدم فيها الصراع السياسي في لبنان سرعان ما يُحَوَّل ويتحول الى شرخ عمودي في نسيج الشعب الذي يفترض أنه واحد، وسرعان ما تتجدد الدعوات الى نوع من الفرز المناطقي والطائفي بمسميات قانونية وشعارات سياسية لا جدال أنها تدخل في خانة «كلام الحق الذي يراد به باطل». فقد عرف جبل لبنان منذ أواخر القرن التاسع عشر نظام «القائم مقاميتين» الذي استهدف نظرياً وضع حد للنزاعات الإقطاعية، الممّوهة مذهبياً، من خلال نوع من التقسيم الجغرافي والإداري الذي عكس التوازنات الاجتماعية والطائفية ذات الصلة، ومنذ ذلك الحين اعتاد اللبنانيون على استذكار موسمي «اللامركزية الإدارية الموسّعة»، وملّوا اجترار شعار «الإنماء المتوازن»، وضاقوا ذرعاً بدعوات البعض الى «الفدرالية» أو «الكونفدرالية». وفي سياق هذه الأجواء المتجذرة في تاريخ لبنان الحديث، شكّلت حادثة «كوع الكحّالة» فرصة متجددة لكثير من المتحمسين بإعادة المطالبة، وربما للتهديد، بالتقسيم تارة وبالفرز طوراً وبالأمن الذاتي أطواراً أخرى، وذلك بحجة استقلال حزب الله مناطقياً وعسكرياً ومالياً مع تحكّمه بالقرار السياسي والقضائي وطنياً، وهذا ما يلتقي- رغم اختلاف المناسبة والمقاصد- مع ما يخفيه تصريح رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي أعلن في وقت سابق استعداده للتوافق مع حزب الله وحلفائه على اسم مرشّحهم للرئاسة الأولى مقابل أن يفوز بورقة «اللا مركزية الإدارية والماليّة وصندوق إدارة أصول الدولة»! وبغض النظر إذا ما كانت مثل هذه الدعوات هي من قبيل المناورة السياسية أو الاستقطاب الطائفي أو التكسب الانتخابي، فإن اللا مركزية الإدارية الموسّعة هي مطلب محقّ وواجب دستوري يقتضي الالتزام به، شأنه شأن بعض البنود الأخرى كإلغاء الطائفية السياسية التي نص عليها دستور «الطائف» وتغافل المعنيون عن تطبيقها عمداً منذ عام 1989 حفاظاً على هيمنتهم الحزبية وزعامتهم الطائفية التي مكنتهم من التحكم في مفاصل السلطات والإدارة العامة. *** تعد «وثيقة الوفاق الوطني» الركيزة السياسية الرئيسة للإصلاحات الدستورية التي أقرّها مجلس النواب اللبناني تحت مسمّى دستور «الطائف»، وقد تضمنت هذه الوثيقة فقرة خاصة بـ«اللامركزية الإدارية» نصت بنودها على ما يلي: 1- الدولة اللبنانية دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزية قوية. 2- توسيع صلاحيات المحافظين والقائم مقامين وتمثيل جميع إدارات الدولة في المناطق الإدارية على أعلى مستوى ممكن تسهيلاً لخدمة المواطنين وتلبية لحاجاتهم محلياً. 3- إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات. 4- اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى «القضاء وما دون» عن طريق انتخاب مجلس لكل قضاء يرأسه القائم مقام، تأميناً للمشاركة المحلية. 5- اعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحدة والاتحادات البلدية بالإمكانات المالية اللازمة. وقد ترددت أصداء هذا التوافق السياسي في محتوى دستور «الطائف»، إذ ورد في مقدمته أن «لبنان وطن سید حر مستقل، وطن نهائي لجمیع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور والمعترف بها دولیاً...» فأرض لبنان «واحدة لكل اللبنانیین» ولكل لبناني «الحق في الإقامة على أي جزء منها والتمتع به في ظل سیادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسیم ولا توطین»، وذلك مع التأكيد أن «الإنماء المتوازن للمناطق ثقافیاً واجتماعیاً واقتصادیاً ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام». وفي السياق نفسه، نصت المادة (3) من الدستور على أنه «لا یجوز تعدیل حدود المناطق الإداریة إلا بموجب قانون»، مما يعني أن إقرار اللامركزية الإدارية وما يرتبط بها من استقلالين إداري ومالي وتقسيمات إدارية تتطلب توافقاً سياسياً، لم يتأمن بعد، مع ترجيح عدم اكتماله من غير تنازلات وطنية مكلفة أو مقايضات سياسية لا يسهل تحقيقها! *** يتمسك المؤيدون للتقسيمات الإدارية المبنية على أساس طائفي بنجاح التجربة في بعض الدول التي تتكون شعوبها من إثنيات أو أعراق أو انتماءات متعددة، مذكّرين بالتجربة السويسرية والهندية والألمانية والبلجيكية والنمساوية، حيث أثبت الواقع أن النموذج الاتحادي في كل منها نجح بالتقليل من التوترات العرقية والإثنية والدينية مقابل تعزيز الانتماء الوطني. وعلى عكس ذلك، يثير المعارضون لمثل هذه التقسيمات الإدارية عديداً من المخاوف المنطلقة من قناعة ثابتة أن لكل بلد ظروفه التاريخية والسياسية وتركيبته الحضارية والثقافية الخاصة، فما قد يصلح في نسيج اجتماعي معين قد لا يكون قابلاً للتطبيق في مجتمع آخر، وبخاصة أن التاريخ اللبناني الحديث يثبت هشاشة الوضع الطائفي اللبناني وحساسية التعامل معه ودقة توازناته، مما يخشى معه أن يتحول أي تقسيم إداري- مهما اختلفت أشكاله أو مسمياته أو أبعاده ومراميه- الى انقسامات طائفية سرعان ما تتحول الى نزاعات دموية. العبرة في مثل هذه المسائل الدقيقة والحساسة تكمن في حسن إعدادها ودقة تطبيقها، فلا يجوز التمسك باللامركزية الموسعّة مثلاً على أساس فرز طائفي، كما لا ينبغي لأي نوع من التقسيمات الإدارية أن يؤدي تدريجياً الى انفصال جغرافي تحت غطاء استقلال القرار الإداري، أو أن ينتج انفصال مالي كامل عن ميزانية الدولة تحت شعار حق دافعي الضرائب المحلية بالاستفادة من مردودها في الخدمات التي تعني مناطقهم. التوازن الطائفي لا يقتضي أن ينتج فرز أو تقسيم أو إضعاف للوحدة الوطنية، والإنماء المناطقي لا يجوز أن يؤدي الى تقسيم بلد قيل عنه إنه «أصغر من أن يقسّم»، كما أن الاستقرار السياسي المنشود يجد أرضية ملائمة في بلد موحّد وشعب واحد أكثر مما يسهل تركيزه من خلال محاولات الفصل بين أساليب التفكير المختلفة وأنماط العيش المتعددة والميول الحضارية والثقافية المتنوعة، والتي هي أساساً ميزة الشعب اللبناني الحقيقية وفرادة لبنان الدائمة. * كاتب ومستشار قانوني.
مشاركة :