التكثيف في قصيدة الهايكو «تجربة الأديبة التونسية ناهد الغزالي أنموذجاً» - د.أحمد يحي القيسي

  • 8/18/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

النفس البشرية تواقة للوضوح، ولبلوغ الغايات والمقاصد بأيسر الطرق وأقصرها، حتى على مستوى التعبير والحكي فإنها تتوقى الحشو والثرثرة الفائضة عن حاجة القول، لذلك سَرَت على الألسنة مقولات تغذي هذه الفكرة، من قبيل «خير الكلام ما قل ودل». وهي رؤية كونية تتجلى في مختلف ثقافات الشعوب من خلال أشكال القول الموجزة، كالأمثال السائرة التي تشير ببضع كلمات إلى وقائع لها أحداثها المتشعبة. دون تعد على المقامات التي تستلزم الإسهاب. وقد أذعنت فنون الأدب الوجيز لرغبة هذا العصر باقتصادها اللغوي انطلاقاً من مقولة النفري الذائعة: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، وإن لم يتهيب مقتحموها ضرورة الامتثال لجوهر هذا التصور، فمعظمهم شحت ألفاظهم دون انفراج ملموس في أفق الرؤية. ويعد الهايكو بصرامته المعهودة من أشد الفنون تحريضاً على الإيجاز، فحيزه النصي الضيق لا يُفسِحُ موطئاً لفضلة الكلام وللمعاني الجوفاء، وإقحامهما رغماً عنه يودي بالنص إلى مواطن الابتذال، فقلة هم الذين أوتوا ملكة التكثيف وتخليص النص من أي زائدة لفظية دون أثر يطرأ على فكرته وجمالياته، ومنهم الأديبة التونسية/ ناهد الغزالي. إن ما يميز أسلوب ناهد الغزالي في ارتكاباتها الهايكوية مهارتها في تحويل الحدث الهامشي العابر إلى مشهد يستحث نزعات التأمل الدفينة في أعماقنا، وكذلك قدرتها على اختزاله وصياغته في أقل قدر من الكلمات، كقولها: أعلى التلة خلتُه أنتَ الحجر الذي تدحرج! لا يمكنني والقارئ الذي يستشعر حمولة هذه المفردات أن نتوقف عند حدود المعنى المباشر الذي عبَّر عنه مشهد لم تره، بل سمعته (صوت حجر يتدحرج)، فالنص يشرع للتأويل آفاقاً، ويوصد على المتلقي أبواب الخروج منه دون تمعن، والهايكو -كأي نص أدبي- له بنيته السطحية التي تتجلى في الفهم المكتسب من القراءة الأولى، وله بنية عميقة تنقب عنها القراءات المتعددة وعلامات الاستفهام التي نحيطه بها، فلو استنطقنا النص سريعاً وتساءلنا: من هو هذا الــ (أنت)؟ ولماذا ظنت الحجر المتدحرج إنساناً، وأنه ذلك الذي تعنيه دون سواه؟ لما توقف تيار الأسئلة إلا عندما ترتسم في مخيلتنا بنية قصصية. وكثيرة هي المشاهد التي تلتقطها ناهد، فتذيبها في أقصر التراكيب اللغوية، لكنها على قصرها تأتي مشحونة بواحدة أو أكثر من ثيمات «الشوق، الحنين، الانتظار، الترقب»، تأمل قولها: نعناع جاف كل ما تبقى من بيتنا القديم وأخيراً هذه باقة مختارة من نصوص ديوانها «طواحين الهواء»: ‏لا رسائل اليوم عند الباب تتجمع أوراق الخريف!‏ * * * يا للوحدة طقطقة أعواد الحطب في موقد العجوز! * * * غربة - بلا ستائر نوافذ البيت الجديد! * * * صفراء أتخيل لها عطرا أزهارك الإلكترونية! * * * شاطئ اللوحة لا نوارس أيضاً * * * حقول القطن البعيدة بلون السماء كنزة العجوز

مشاركة :