ظروف وأسباب تعددت، دفعت عدداً من الشباب للسفر إلى الخارج، ليغيب البعض منهم سنوات معدودات ويعود، ويقرر البعض الآخر الاستقرار في بلاد اغترابه ليتحول وطنه الأم إلى مجرد مكان يقضي فيه إجازته السنوية. وبخلاف النظر إلى الأسباب التي دفعت الشباب إلى السفر أو العودة تاليا، أو قرار الاستقرار في الخارج، لا بد من الاعتراف بأن ثمة منهم يحمل في حقيبة سفره في طريق عودته للوطن الأم، مستقراً أو زائراً، أكثر من احتياجاته الشخصية، بل ويضيف عليها أفكار البلاد الجديدة التي يعيش فيها وعاداتها وتقاليدها، ليطالب بها مجتمعه القديم، فالبعض من الشباب لم تغيرهم سنوات الغربة، وقد أدركوا أن لكل مجتمع عاداته وتقاليده، التي ليس بالضرورة أن تتناسب مع عادات مجتمع آخر. ندرك أن من حق الشباب أن يطالبوا بحياة أفضل في بلادهم، بل ولديهم كل الحق بالمطالبة بألا تكون الأبواب في بلادهم مغلقة أمام طموحاتهم، كما يحق لهم المطالبة بمعالجة الأسباب الحقيقية لمشكلاتهم، التي يعانونها، ولكن ما هو غير مرغوب، أن يخطط هؤلاء حياة الناس هنا، كما يشاءون، أو كما شاءت رغباتهم في بلاد اغترابهم، ويطالبون بتغيير جذري للمجتمع، بما يتناسب وطموحاتهم ورغباتهم الشخصية، فلكل مكان خصوصيته التي على الجميع احترامها، وعليهم ألا يسعوا لتبديلها، لمجرد أنها لا تناسب متعة ما عاشوه في مكان آخر. في التحقيق الآتي، نرى إلى أي مدى تأثر الشباب بالغربة عند الدراسة خارجاً، أو أي سبب آخر: شيء مختلف موسى نزيه أكمل دراسته في النرويج، وعند عودته إلى بلده الأم، تفاجأ بحال مجتمعه الذي لم يتغير، يقول: كنت أظن أنه بعد سنوات من غيابي سأجد شيئاً مختلفاً في المجتمع، والروتين الحياتي الممل ذاته، لا يزال موجوداً.. باختصار لم يعجبني شيء هنا، ولولا أهلي لتمنيت العودة إلى النرويج في أقرب وقت. ويعلق أحد أصدقاء موسى، خالد شحادة، قائلاً: يبدو أنه أراد أن يعود ليرى نرويج أخرى تنتظره في بلده، حال المجتمع في بلده، الذي رأى أنه لم يتغير، ومن ناحيتي، أردت العودة إلى بلدي لرؤية أهلي، مهما كانت حال البلد الذي أعيش فيه. فراس ديب الذي يدرس في إحدى الدول الأوروبية، وجاء إلى دولة الإمارات، ليؤكد بوضوح قائلاً: لم آت إلا للزيارة، مبرراً ذلك بالقول: كيف أؤمن مستقبلي في غير البلد الذي درست فيه 6 سنوات وأمَّنت جزءا من مستقبلي هناك. بلال ياسين، الذي غادر بلده لبنان، للدراسة في بريطانيا، وهو ينتقد الازدحام وصعوبة الدراسة، بسبب الغلاء، وعندما جاءته منحة للدراسة خارجا، لم يتردد أبدا، وعندما عاد بعد أشهر فقط، لم يعجبه في البلد شيء، حتى معظم أصدقائه، لدرجة أنه يحسب الأيام، ليعود إلى بريطانيا. راوية فواز، التي درست في روما، عادت بعد سنة من انتهاء دراستها هناك إلى بلدها بزي ولهجة مختلفين عما غادرت به، واعتبرها البعض ناسية أن لكل بلد عاداته وتقاليده، التي يجب أن يحترمها ويحافظ عليها، وتقول مستغربة: أهل بلادي ما زالوا متمسكين بعادات قديمة، وبحكم دراستي في أوروبا، أراها يجب أن تتغير، كما أن الناس غير منفتحين، إضافة إلى أن كل شيء يحدده المجتمع والأهل. هديل عبدالهادي التي حملت رؤية معاكسة، رغم أن الاثنتين تقيمان في دول أوروبية، تقول: في الغربة نفتقد للحميمية والعلاقات الإنسانية المترابطة، وفي مجتمعنا الشرقي، كثير من العادات التي تبدو نعمة، قياسا على العلاقات الاجتماعية هنا . عبدالرحمن محمد، سافر للدراسة في السويد، يقول: في الحقيقة لم تكن لدي الرغبة للدراسة في الخارج، ولكنني أردت أن أضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، أولاً دراسة الإخراج السينمائي، وثانياً تجربة حياة الاستقلال، ويشير إلى أنه كان خائفاً من أن يتأثر بالحياة الجديدة، فيسير في طرق لا تحمد عقباها، ولكنه عندما عاد من الخارج أدرك أن الغربة لم تؤثر فيه وكان متمسكاً أكثر بالعبادة. شوق وحنين اغتربت ياسمين الجمال للدراسة في أستراليا، بسبب منحة أتتها، و لم تحب أن تضيع الفرصة من بين يديها، فتقول: كنت أتواصل مع أهلي بشكل دائم لإحساسي بأنني غريبة، وأشعر بوحدة تغمرني، لكن تدريجياً خف التواصل مع الأهل والأقارب، وذلك لأنني دخلت مرحلة جديدة، وهي دراستي في الجامعة، و مهما كانت الغربة مريحة وتوفر للشخص أفضل الظروف، لكن لابد الحنين للأهل، وعند انتهائي من دراستي عدت إلى أهلي، وأنا أحمل في قلبي شوقاً وحنيناً لهم، ولم يشعر أهلي بأن الغربة أثرت فيّ أبدا، بل زاد تمسكي بأهلي وديني. خالد قاسم عبر عن رأيه قائلاً: إن التأقلم في المكان الجديد ليس بالأمر السهل، لكن من الضروري الانسجام مع الواقع، خاصة أنني ذهبت للدراسة ثم العمل خارجا، فبوسع الإنسان أن يجمّل حياته، فيجعلها مملوءة بالراحة والهدوء إذا تعامل مع الأمر بواقعية، وبوسعه أن يحوّلها إلى تعاسة مطلقة، إذا لم يكن قادراً على ذلك، وأضاف يمكن للشخص التعايش مع مختلف الثقافات، وهنا تكوّنت لدي معرفة بالحياة الاجتماعية، ربما لم يتسن لي الحصول عليها فيما لو لم أسافر خارج بلدي. علي محمد يقول: ذهبت لدراسة الفنون في الدنمارك، وكنت متفوقاً دراسياً وأخلاقياً، ولم أتأثر في الغربة أبداً، وبمجرد تخرجي عدت إلى الإمارات، ولا أخفي أنها كانت تجربة صعبة، ولكن تخطيتها وبقيت كما أنا. أما سالبي الباوي، فتقول: لقد راودتني كثير من الهواجس والأفكار السيئة حيال السفر للدراسة خارجاً، مع أنني كنت راغبة في ذلك، وسافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعندما أتممت دراستي، عدت إلى موطني وبيت أهلي، فأدركت أن الغربة لن تكون السبب في الانحراف، فمن يحب السير في الطريق الخطأ، يستطيع ذلك في أي مكان، حتى لو كان في أقدس الأراضي. يقول جهاد عمار: بعد تخرجي في المرحلة الثانوية، التحقت للدراسة في ألمانيا، لا أخفي أنني شعرت بأنني سأعيش تجربة جديدة، وسأتخلص من رقابة الأهل، إضافة إلى عدد من الأمور، التي نعتبرها مزايا لنا نحن الشباب، وما هي غير أشهر قليلة، حتى بدأت أشعر بالملل، وبعد فترة سجلت في ناد رياضي ومركز تحفيظ قرآن، مما جعلني أتمسك بديني، وعندما انتهيت من دراستي، عدت لبيت أهلي، فاكتشفت أن الغربة لم تؤثر فيّ سلباً، بل أصبحت متمسكاً بديني أكثر من الأول. تقول جمانة الفحل: أرسلني والدي إلى تركيا للدراسة، وعندما أنهيت دراستي وعدت إلى بلدي، لم يتغير في شخصيتي ولا ديني ولا تصرفاتي أي شيء، فالإنسان القويم قادر على التأقلم والنجاح في أي بيئة يعيش فيها، بل حتى إنه قادر على التأثير في هذه البيئة وتطويرها وتغيير ملامحها. مرام عمار، طالبة في الجامعة الأمريكية في الشارقة، فضّلت التعليم في الإمارات على السفر إلى بلدها لبنان، وقد تأخّرت عاماً دراسياً كي تجتاز امتحان التوفل، وتُقبل في الجامعة الأمريكية، وتقول: التعليم في الإمارات أفضل والجامعات أقوى، كما أن الرقابة الموجودة على الطلبة والمنشآت الجامعية وانضباط الطلبة أكثر، مما هو في لبنان. نادر ياغي: التصرفالصحيح عند كل موقف يقول د.نادر ياغي، اختصاصي في علم النفس: الذين يغتربون قسمان: قسم يتغرب باعتبار أن المجتمع له عادات قديمة وتفكير قديم، ويسعى إلى مستقبل وتطوير حياة أفضل، وآخر يحب السفر للتمتع والاستقرار خارج البلاد أو الدراسة، من دون أن ننسى أن كل فرد تواجهه صعوبات مع المجتمع الجديد وحضارته وعاداته وتقاليده، لذا يجب البدء بإعداد الشاب ليستقل بنفسه مبكراً، ولا يقتصر ذلك على التدريب على شؤون الحياة اليومية فقط، بل المحافظة على النفس من كل خطر والتصرف الصحيح عند كل موقف.
مشاركة :