أحد عشر نصّاً ينطوي عليها هذا الديوان تبدو قصيدة واحدة طويلة، محورها (الأنا) وظلها، أو الأنا بشطريها حيث يخاطب أحدهما الآخر، وذلك على امتداد الشريط اللغوي في الديوان، وقد انتهج الشاعر سبيلا اختطّه لنفسه، ملتزماً به، فذات الشاعرة هي المحور، من خلالها نتصفح وجود الأخرين عبر الزمن ونرصد المتغيرات وما يصدر من ذبذبات إزاء الأشياء والأحياء، وقد بدت أغلب قصائدة ذات بنية مقطعية سباعية في الغالب، تم اختصارها في القصائد الأخيرة إلى أقل من ذلك ؛ إذ بدت تضيق مساحة التعبير بعد أن استنفدت التجربة مذخورها، وقد تمثلت وحدة القصائد في همّها الرئيس، وهوهمّ وجوديّ إنسانيّ وجدانيّ. في قصيدته (وحدك دون غيرك) يختار الشاعر الحلم بوصفه فضاءً افتراضيّاً زماناً ومكاناً ؛ ليخلوإلى ذاته يناجيها ويحاورها ؛ فالأفق الزمكانيّ عابر للواقع بكل أبعاده، وقد اختار مفردة دالة على الانعتاق من أسر اللحظة متحررةً من كل الأبعاد (براري الحلم) مطلقاً العنان لصوته وحركته ورغباته ومحوّلاً الوجود إلى سديمٍ هلاميٍّ يسبح بين مجرّاته معطّلاً لحواسّه منفتحاً على ماضيه ،محدّقا في (تسابيح الغياب) مترنّما بالحياة والغناء والأمل مكرراً عبارة ( في النوم ) وكأنها التوقيعة الفاصلة في دورة الرقص تذكرنا بالحلم حتى لا نستغرق في وهم الواقع، واللّازمة الإيقاعيّة في الغناء تذكر المتلقي كلّما انتهى بأنه ابتدأ من جديد . إن كل ما لا يمكن تحقيقه في الواقع يتكفّل به الحلم، يخرج من حيّز الزمان والمكان إلى عالم الأحلام، وتأتي عبارة (في النوم) في أول كل مقطع من مقاطع القصيدة السبعة (وهذا الرقم له دلالته) لتنبه إلى حقيقة أن ما يجري عابر للوجود بمحدّداته الواعية إلى اللّاوعي، ويتحوّل الماضي إلى أسراب سابحة في أمواج الخيال، عالم آخر يقع خارج الوعي وبعيدا عن أفق الخيال، فهويقع في المنطقة الفاصلة بين المربّعين، ولكنه يستعير أدواته من الواقع ويتمثل أشياءه وأحياءه وأحاسيسه : السرير والأصفاد والغيم والشجن ويستحضر روحه، ويستفزّ خيالاته عن النساء والعشق ، ويستجلب كل ما يتمنّاه من عالمه الواقعي إلى فضائه الافتراضي عبر عملية التخييل التي يتيح لها الحلم إمكانات شاسعة بلا حدود . يتنقل في المقاطع السبعة بين غياب الرؤي والخفاء، والوداع عبر تلويحة للغائبين وانتصارالخيال وفتح باب الأمنيات والبصيرة والاستبصار، والخلوة مع النفس واستحضار السحاب وتقصّي ملامح الذات.إنه يعمل على نقل كل ما يدور في خلده من رغبات وأمنيات إلى الحلم، ويتمثّل صورة لطفولته كما يتصوّرها في نموذجٍ تتجسّد فيه خصائصه النفسية ورؤيته لذاته فيما يشبه البورتريه : “ لكن ثمة بينهم طفلاًغريباً/ لست تذكره يحدق باهتمام / في عيونك كلما أهملته / طفلا غريبا، كلما قربت مترا/ من ملامحه اغتربت/يحمل في حدود يديه قنديلا كفيفا” فالقصيدة السباعيّة هذه محاولة لقراءة الذات وما يحيط بها وأن يجوس خلال عالمها بحرّية بعيداً عن الرقابة، سياحة حرة في عوالم الذات الشاعرة تستبطن دواخلها وتغوص في أغوارها وتشكل رؤاها . مناجاة الذات إئتلافاً واختلافاً، انشقاقاً وتوحّداً، سمة أساس من سمات القصيدة في هذا الديوان، تصالح مع الذات واختلاف مع الآخر : الأخر المحبوب والمرغوب، وليس المكروه والمشنوء، إبحار في الداخل واعتلاء لأمواجه، وتوكيد وإلحاح على المنطق المختار، سباعيّة أخرى يقرأ فيها الشاعر هواجسه ويستقصي مرافئه ولا يرسوإلا على شاطئه الخاص، والعنوان صريح حاد الدلالة مباشر المعنى (أنا كثير في غياب أحبتي) فالوحدة منجاة، والبعد آمن والسير منفرداً ذروة السعادة، رؤيا وجودية ومنطلق حياة، يبدأ بترتيب منتظم متحدّر كما النبع (أنا معي ) هذه العبارة التي يستهل بها مقاطع القصيدة كلها في إيقاع منتظم، يبدأ بالحبيبة الراحلة يراها يمامةً وغزالة تتشكّل في خياله كما يحب لا يأسى علي فراقها، فهي تحلّق بجناحي شعره يتصورها كما يشاء يستعير لها أوصافها يصوغها من جديد بلغته ومجازاته، تتزيّا بالزيّ الذي تختاره يتمثّلها شعراً ويتأملها لغةً بكراً تخترق حجاب الحضور إلى مكنونات الغياب، تتحرّك أمامه، مفارقة للموقف ؛ فكيف لشاعر أن يتغنّى بوحدته ويأسى عليها في الوقت ذاته، ذلك اختراق حقيقيّ عابر للمعنى : “لا شيء ينقصني/ أقول لوحدتي/ لحبيبة رحلت ولم تصغِ مليّا / للصدى المكسور في وتري الأخير” تلتئم عناصر الرؤيا في صورة تجمع بين متنافرين (الاكتمال والنقص) اكتمال الذات الشاعرة وانكسار الصدى في الوتر الأخير،جدائل من تراكيب تجمع بين (المناجاة الحميمة والشكوى الأليمة والرضا والحسرة) التقاط لذبذبات الداخل ورصد لحراك نفسي يعتلح في الصدر) وتعبير تتنازعه استعارة خاطفة ورمزيّة مستكنة في مشهد يجمع بين المؤتلف والمختلف . وإذ تبدو اللقطات التصويريّة التي يمتحها من أباره العميقة في صياغات رامزة وقد تخلّقت في رحم المفردات التي يقتنصها من شوارد الخيال قريبة المعنى عميقة الدلالة امتداداً واضحاً لنهج اختاره الشاعر وامتلك خصوصيته، تتناسل في انتظام داخلي واضطراب خارجي مقصود ومرصود: “لا الحظ يمنحني جوابا لالتفاتته / ولا شغفي الطويل إلى الحقيقة/ قادر أن يرشق المعنى البعيد بوردة بيضاء/ في كل الفصول” إضمامات من الخواطر التي تساور الشاعر وتلتقط نبضه (الحلم والمجاهل والمجرّات والغايات والأقدار ) تشكيلة تتراسل فيها حقول المعاني متشاكلة مع الكائنات والأشياء والخلجات : لوحة تعبيرية تتقاطع فيها الخطوط والألوان في تناقض خارجي وانسجامٍ داخليّ ماضية في تدفقها وتجلّياتها عبر الحلقات السبع التي تتداخل وتنتظم في سياق منسجم متنافر متسق مختلف، وتلك مفارقات الفن التي تدخر في مكنونانها شوارد الرؤى . تجليات تتماهى فيها الذات مع كافة قسماتها وملامحها وحركاتها وسكناتها مع ما حولها من مظاهر الوجود، متناغمة مع البيداء والريح والمعشوق، جوارح وخلجات وغوايات وخطوات ولاءات، جمع بين المتنافرات والمتآلفات: تحديق وتأمل على مدى هذه الفقرات الشعرية السبع : انتقال من محطة إلى أخرى ينتظمها خيط واحد في منظومة الذات المتفردة (أنا معي) لازمة لغوية نفسية تختزل الموقف برمّته في تحدٍّ للآخر الذي يصارعه وينازعه وجوده فيقابل التحدي بمثله ويركب موجة التحدّي مبحراً في أعماق الذات،حاشداً ملامح الماضي ومجنّداً ذكريات الطفولة وعلائقها الحميمة، متمحورا حول ذاته مدجّجاً بالثقة مقارعاً ومتحدّياً . يمضي على هذا النحو في الديون يبني قصائده على وقع خطى الزمن في قصيدته (تلقي بحزنك في صخرة الماء) فالزمن محطة بالغة الأهمية، يجعل من الماضي رصيدا وجدانيا يرصد من على منصّته التحولات، ويمضي في تشكيل جماليّاته على مفرداته الأثيرة التي هي قوام معجمه الشعري على امتداد مساحة الديوان حقلاً تعبيريًا تنتظمه قلادة من الصور والمشاهد تتحوّل وفقا للتغيّرات في المواقف والأحوال، فنحن أمام مفتتح نصّي يشي في التجليات الأولى بتعبير غنائي مألوف عن الضعف والعجز (مقصوص الجناح) و(موثوق القدمين) ما يناسب الشعور بالدخول إلى مرحلة جديدة من مراحل العمر، وهو إحساس نلمسه في اختصار سباعيته إلى خماسيّة تبدأ بعبارته المحورية (في الأربعين) وهي تعكس إحساسه بالزمن، الهاجس المؤرّق الذي يذكّره ببهيجٍ منصرمٍ من أيامه يمثل محوراً وجوديّاً مهمّاً في مجمل القصائد، متمثلّاً في النشيد والحقل والصبايا والنّبع والظّباء واليمام والشّدو والحزن والنّبع مختتماً لها بالانطفاء بعد التوهج والتألق . ديوان له خصوصيّته وجمالياته وقاموسه ومفرداته ورؤاه يستوقف القارئ الناقد ويستحثّ ذائقته .
مشاركة :