بسبب نفاذ وتأثير الاعلام والسينما على الصورة النمطية عند معظم الاسر رسخت فكرة ان تخصصات الطب والهندسة هي أكثر المهن جاذبية بسبب ارتفاع الدخل منها والارتقاء الاجتماعي، بينما كان الارتقاء في الوظائف العامة يعتمد على مؤهلات عديدة منها تخصصات من شغلوا وظائف قيادية. وفي منتصف الثمانينيات الميلادية لاحظ أعضاء هيئة التدريس بقسم الاقتصاد بأحدي الجامعات انخفاض ملحوظ في نسبة الطلاب في تخصص الاقتصاد مقارنة بالأعداد الكبيرة في الأقسام الأخرى في نفس الكلية. ولهذا تم تكليف فريق لدراسة الظاهرة واسبابها، ألا ان الفريق اكتشف بعد دراسة ميدانية شملت الجامعات الأخرى في المملكة وبعض الدول المجاورة ان معظمها أيضا يواجه انخفاض واضح في الاقبال على هذا التخصص. وعند استقصاء الأسباب وجد الفريق ان آليات التوظيف لخريجي الجامعات في سوق العمل تعتمد على تصنيف التخصصات بشكل يفتقر الى الدقة ولا يربط الفرص الوظيفية المتاحة بالمهارات التي يحتاجها سوق العمل من خريج كل قسم. وتتضاءل الفروقات والمزايا بين تخصصات الأقسام العلمية بسبب عدم تحديد سوق العمل آنذاك المهارات التي يطلبها وفق تلك التخصصات ويميل الطلب على خريجي الكلية الى التعميم. ومن جهة أخرى كانت هناك أيضا أسباب تتعلق بتصور الطلاب لعلم الاقتصاد نفسه ويرونه علمًا مليئًا بالافتراضات والشروط والمصطلحات المعقدة، والمفاهيم صعبة التوضيح، وتجارب صعبة التطبيق، وعدم وضوح معالمه لدرجة تزيد من صعوبة المنهج، ولهذا لا يحظى علم الاقتصاد بقبول واسع لدى الطلاب في التخصصات الأدبية، او في التخصصات الأخرى التي تفرضه كمتطلب أساسي او اختياري. سنجد دائما من لا يحب الاقتصاد ومن يستغله ومن يخشاه؟ وتذكر معظم كتب مبادئ الاقتصاد انه العلم الذي يهتم بتفسير النشاط الاستهلاكي والإنتاجي للبشر وتحليل سلوكهم وتعاملاتهم الاقتصادية أثناء توظيف الموارد الاقتصادية من أجل تحسين الحياة المادية لهم ومجتمعاتهم. إلا أن تلك الكتب لا تذكر انه علم يبعث على الكأبة Dismal Science بسبب نظرته التشاؤمية، فالجميع يأمل في الحصول على ما يحتاج ويتمنى ان يقدر على تحقيق رغباته، بينما يبين علم الاقتصاد لماذا لا يحصل الجميع على كل ما يتمنونه بسبب الفجوة بين الاحتياج والمتاح. كما انه علم يركز على افتراضات مثالية سيؤدي غياب أحدها الى نتائج سلبية وتجعل من الصعب فهم التناقضات في الواقع مثل لماذا أدت العولمة والتقدم الاقتصادي الى زيادة البطالة والفقر لصالح الآلات والتقنيات؟ ولهذا لا تميل الغالبية الى علم بهذه المواصفات، ولكنهم يقرون بأهميته باعتباره الحجة التي يستغلها السياسيون في تبرير أي احداث سلبية، ووسيلة فعالة تدعم جذب أصوات الناخبين، بجانب أهميته كأداة يعتمد عليها رجال الاعمال في تحديد جدوى قراراتهم وقياس نتائجها، وأيضا كمبرر لعدم تحقيق وعودهم في مواجهة تقلباته. وفي محاولة لمعرفة او استقصاء أبرز أسباب النفور من علم الاقتصاد وعدم الثقة في أسلوب علماء او خبراء الاقتصاد وجدت تباين المبررات والتي تشكلت معظمها بسبب اعتقادات غير منصفة أو تفتقر الدقة ومن أبرزها: - الاقتصاد علم معقد غير واضح المعالم بسبب الدورات الاقتصادية وتقلبات الأوضاع الاقتصادية بأشكال متنوعة مع التغيرات السياسية والحروب والأزمات والكوارث الطبيعية وايضا مع التقدم التقني. - الاقتصاد علم اجتماعي يبدأ بفكرة أن الموارد شحيحة، وأنه يجب اتخاذ الخيارات في استخدامها، وأن تلك الخيارات قد لا تكون رشيدة او عقلانية بشكل كافي مما يتطلب تدخل قوى السوق (آليات العرض والطلب) لفرض تخصيص الموارد بشكل منطقي وعقلاني. - لا تتفق النظرية الاقتصادية مع تحيزات أصحاب المعتقدات السياسية المختلفة، فمن لا يؤمن بالأفكار الرأسمالية يعتقد ان السوق مجرد وسيلة لحرمان العمال من فائض عملهم، ولأن الاقتصاد الرأسمالي يفرط في استخدام الموارد لتحقيق النمو، بينما من لا يتبنى الأيديولوجية الماركسية يكون لديه قناعة تامة بان الاشتراكية جلبت الفقر المدقع ودمرت البيئة وشوهت الملكية الخاصة، واضعفت اقتصاد السوق. - يعتمد الاقتصاد على الكثير من الافتراضات التي تتطلب التفكير المجرد والمحايد والمنطقي أو الرشيد، بحيث يتيسر فهم النماذج والنظريات الاقتصادية، بينما واقع سلوك البشر وقدرتهم على اكتساب تلك المهارة لتبني تلك الافتراضات الضمنية تضعف قدرتهم على التجريد الذي يتطلبه منطق الاقتصاد الرشيد فيختلف الواقع عن المأمول. - يعتمد الاقتصاد الملاحظة والاستنتاج والتحليل العلمي لتفسير النماذج المجردة لعدم امكانية القيام بتجارب عملية يمكن التحكم بها والتأكد من نتائجها. حيث يصعب تجربة فروض كثير من النظريات الاقتصادية وإثبات صحة نتائجها، لاعتمادها على الدراسات الميدانية او التاريخية والمقارنة وتتبعها لعدد من السنوات أو في عدة مجتمعات مختلفة، باعتبار ان حدوث أي تغيير في سلوك البشر الذين يمثلون الوحدات الاقتصادية في تلك المجتمعات او في أي وقت سيتضمن سقوط أحد فروض النظرية ويجانبها الصواب. (ولهذا يعترض البعض على أن تُمنح جائزة نوبل في الاقتصاد، لأنه علم يصعب إثبات صحة أو خطأ نظرياته). - تعدد أساليب الاقتصاديين في تقديم أفكارهم بالألفاظ والمصطلحات والمعادلات الرياضية والبيانية والرسومات ثنائية وثلاثية الابعاد، كما لا يمكن دراسة الاقتصاد بشكل صحيح بدون الرياضيات، بجانب ان كثير من الطلاب يحاولوا التركيز على تعلم كيفية القيام بالرياضيات كعلم وليس كوسيلة لفهم الأفكار والنماذج والنظريات الاقتصادية التي يتم تدريسها، مما يضعف القدرة على توضيح تلك المعلومات. - ضعف قدرة خبراء الاقتصاد على اقناع غير المتخصصين بأسباب اختلاف النتائج عن التوقعات عند تقلبات الأوضاع والدورات الاقتصادية نتيجة التغيرات الحياتية بسبب سقوط أحد الفروض فيبدو علم الاقتصاد ضعيفا أو غير واقعيا. ويروي عـن الرئيس الأمريكي هاري ترومان أنه طلب من مستشاريه ترشيح عـالم اقتصاد؛ بشرط أن يكون بيد واحدة! فلما سئل عـن السبب؟ أجاب باسماً: إن الاقتصادي في العادة يقدم اقتراحا، ولكنه دائما سيستدرك بقوله: ولكن من المحتمل ان يحدث غير المنشود: (في اليد الأخرى) (on the other hand) - برغم براعة معظم المتخصصين في الاقتصاد في تحليل سلوك البشر خلال تعاملاتهم الاقتصادية، وتوصياتهم بتحقيق اقصى قدر من المنافع والأرباح، الا ان عدد محدود جدا منهم تمكن من تحقيق ثروات لأنفسهم (وهناك قلة من المليارديرات الحاصلين على درجة البكالوريوس أو الماجستير في الاقتصاد ومنهم وارين بافيت، وأليس والتون، وإيلون ماسك، وستيفن كوهين، وكينيث غريفين)، بل هناك من بين العلماء الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد، من حققوا خسائر كبيرة في سوق الأسهم او ماتوا مفلسين.
مشاركة :