من أعظم الاكتشافات العلمية في المجال الطبي وأكثرها فاعلية في علاج المرضى الذين يعانون من حالات العدوى والالتهابات هي المضادات الحيوية بكافة أنواعها وتطبيقاتها وفاعلياتها المتفاوتة في محاربة الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض البشرية والحياة الفطرية. فهذه المضادات الحيوية توسعت دائرة استخداماتها فشملت مجالات علاجية كثيرة، وحافظت على صحة مئات الملايين من البشر من الموت المبكر، أو من المعاناة العصيبة فترة طويلة من الزمن من تداعيات هذه الأمراض المعدية والالتهابات الداخلية المزمنة. ولكن اليوم انكشفت ظاهرة حديثة نسبياً تتمثل في وجود مواد وجينات وكائنات دقيقة تحارب المضادات الحيوية، وتقاوم فاعليتها لحماية جسم الإنسان، وبالتحديد تفشي البكتيريا التي تقاوم المضادات الحيوية في جسم الإنسان، أو الجينات المقاومة لهذه المضادات. وهذه الظاهرة تحولت الآن إلى قضية بيئية وصحية انتشرت في كل دول العالم، ولكن بدرجات ومستويات متفاوتة، وأصبحت تشكل تهديداً عميقاً ومتسارعاً للصحة العامة على المستوى الدولي، حتى إن هذه الحالة المرضية المشتركة عالمياً يُطلق عليها الوباء الصامت. وهناك الكثير من الأبحاث البيئية الطبية التي توغلت بعمق في واقعية هذه الظاهرة على الأرض، ودرست في أسباب تفشي هذه الظاهرة، والعوامل التي تسبب انتشارها على المستوى الدولي، منها دراسة نُشرت في 12 فبراير 2023 في «المجلة الإلكترونية» (Epub) تحت عنوان: «العبء العالمي لمقاومة البكتيريا لمضادات الميكروبات لعام 2019: تحليل منهجي». فقد أكد هذا البحث الشامل أن مقاومة المضادات الحيوية تعتبر اليوم من الأسباب الرئيسة للوفيات في كل أنحاء العالم من عدة أوجه، منها من ناحية الموت المبكر، ومنها من خلال طول فترة العلاج، إضافة إلى الجانب الاقتصادي والارتفاع الشديد في كلفة العلاج وفقدان البشر في سن العطاء والإنتاج. فقد قدَّر الباحثون عدد الوفيات المرتبط بمقاومة المضادات الحيوية في 204 دول، من بين 471 مليون إنسان في عام 2019 إلى 4.95 ملايين وفاة في سن مبكرة على المستوى الدولي، وقرابة 1.5 مليون وفاة لها علاقة بعدوى الجهاز التنفسي. واليوم، وبالتحديد في أغسطس 2023 نُشرت دراسة شاملة تُعد هي الأولى من نوعها في مجلة طبية معروفة بمصداقيتها العلمية، هي مجلة «لانست صحة الكوكب» (Lancet Planetary Health)، حيث شملت 116 دولة حول العالم، واستغرقت قرابة 20 سنة، في الفترة من عام 2000 إلى 2018. وصدرت الدراسة الحالية تحت عنوان: «العلاقة بين تلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة والمقاومة السريرية للمضادات الحيوية: تحليل عالمي»، فشملت 43 نوعاً من المضادات الحيوية، وتسعة أنواع من الجراثيم المسببة للأمراض. وهذه الدراسة تناولت أحد جوانب قضية مقاومة المضادات الحيوية، وهو العوامل التي تؤدي إلى تفشيها على المستوى الدولي، حيث ركزت على العامل البيئي المتمثل في تلوث الهواء، وبخاصة تلوث الهواء بالدخان، أو الجسيمات الدقيقة. وقد هدفت الدراسة إلى التعرف على علاقة تلوث الهواء بالدخان المتناهي في الصغر الذي ينبعث من السيارات ومحطات توليد الكهرباء وحرق البخور والعود والتدخين، والذي يساوي قطره 2.5 ميكروميتر أو أقل من ذلك، وانتشار حالات مقاومة المضادات الحيوية والميكروبية من بكتيريا وغيرها، أو بعبارة أخرى تحاول الدراسة الإجابة عن السؤال الآتي: هل هناك رابط بين ملوثات الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي وازدياد ظاهرة مقاومة المضادات البكتيرية المسببة للأمراض؟ وقد توصلت الدراسة إلى عدة استنتاجات، منها ما يأتي: أولاً: هناك علاقة بين تلوث الهواء بالدخان ومقاومة المضادات الحيوية، وهذه العلاقة تزداد سوءاً كلما ارتفع تركيز الدخان في الهواء الجوي، فارتفاع مستوى تلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر يزيد من مخاطر نمو هذه الظاهرة في العالم. ثانياً: أشارت الدراسة إلى أن هذه العلاقة تتضح وتشتد في كل سنة مع تفاقم تركيز الدخان في الهواء خلال فترة الدراسة التي استغرقت قرابة عقدين من الزمن، فترفع من مخاطر مقاومة المضادات، فكل نسبة زيادة 10% من الدخان تزيد من مقاومة المضادات بنسبة 1.1%. ثالثاً: تُقدر الدراسة أن هذه الحالة أدت في عام 2018 إلى وفاة قرابة 480 ألفا، قضوا نحبهم في سن مبكرة. كما تستشرف الدراسة أن هذه الحالة ستتفاقم لارتفاع تركيز الدخان مع الوقت، فبحلول عام 2050 فإن مقاومة المضادات الحيوية سترتفع بنسبة 17%، والذين يوارى جثمانهم الثرى في سن مبكرة يقدرون بنحو 840 ألفا. رابعاً: الجسيمات الدقيقة، أو الدخان له خصوصية من بين ملوثات الهواء التي لا تعد ولا تحصى، فالدخان يستطيع امتصاص الملوثات الكيميائية والحيوية كالبكتيريا المقاومة للمضادات على سطحه، فتنمو هذه الكائنات المرضية على ظهر الدخان وتكون مستعمرة حيوية، وعند انتقال الدخان إلى الهواء الجوي من مصادره الكثيرة في داخل المنزل وخارجه، فإن الإنسان يستنشق مباشرة هذه الجسيمات الملوثة بالأحياء المسببة للأمراض، فتدخل إلى جسمه عن طريق التنفس، أو عن طريق الجلد وتنتقل عبر الدورة الدموية إلى جميع خلايا الجسم، فتؤدي إلى مقاومة المضادات الحيوية، وأخيراً التأخر في العلاج من المرض المعدي، أو الموت المبكر. خامساً: كشفت الدراسة عن مستويات مرتفعة من مقاومة المضادات الحيوية في دول شمال إفريقيا، والشرق الأوسط، وجنوب آسيا، مقارنة بمستويات أقل في دول أوروبا وشمال أمريكا. فهذه الدراسة الجديدة تكشف عن عامل خطير يهدد الصحة العامة، ليس للبشر فحسب وإنما للحياة الفطرية الحيوانية على حد سواء، وهذا العامل يضاف إلى العوامل الأخرى التي تؤدي إلى مقاومة المضادات الحيوية، مثل الانبعاثات الحيوية البكتيرية من محطات معالجة مياه المجاري، ومن المستشفيات، ومن المزارع التي تستخدم السماد العضوي من مصادر حيوانية، ومن مياه المجاري التي تُصرف في المسطحات المائية. كما أن هذه الدراسة تكشف النقاب عن بعدٍ جديد، ودور لم يعرفه الإنسان من قبل لملوثات الهواء الجوي من الجسيمات الدقيقة، إضافة إلى الجوانب الصحية الكثيرة الأخرى، وهي قُدرة الدخان على حَمْل البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، إضافة إلى حمل الجينات المقاومة للمضادات، ثم نقلها عبر الهواء إلى أبعد المناطق، وبعيداً عن مصدر التلوث، وإصابة الناس بالأمراض والعلل القاتلة. فتلوث الهواء فعلاً يستحق أن يُصنَّف من قبل منظمة الصحة العالمية كمادة من المحتمل أن تكون مسرطنة للإنسان، وتلوث الهواء فعلاً يستحق بكل جدارة أن أُطلق عليه قنبلة دمار شامل للجسم البشري برمته. bncftpw@batelco.com.bh
مشاركة :