لم يكن رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو قلقاً مطلع هذا الأسبوع، من أن تنهمر عليه دروس في حقوق الإنسان وحرية التعبير خلال زيارته لمقر الاتحاد الأوروبي. فهو يحمل في جعبته أجوبة مغرية للتصدي لطوفان المهاجرين عبر الحدود الأوروبية. وهم بخلاف الاعتقاد الشائع، ليسوا كلهم من التابعية السورية، بل ربما الأغلبية تأتي من أفغانستان وباكستان والعراق وشمال إفريقيا.. الخ. وليس من قبيل الصدفة أن يكتم أردوغان أنفاس صحيفة زمان، آخر معاقل المعارضة في الخريطة الإعلامية التركية، عشية زيارة أوغلو إلى بروكسل. وإن تمت المفاوضات كما هو مرسوم لها مع الأوروبيين فمن المتوقع أن تكون الصحيفة التركية قد دفعت ثمن مساومة أوروبية - تركية في قضية الهجرة وثمن الانشغال الأمريكي الحصري بالانتخابات الرئاسية، ذلك أن الحكومة التركية تخشى الانتقادات من هذين الطرفين، وليس من مواطنيها، الذين جاءت بهم العام الماضي خلال شهرين إلى صناديق الاقتراع، ليعيدوا النظر بخيار معارض للعدالة والتنمية، وقد فعلوا جراء الضغط والتخويف والترهيب. على الرغم من أهميتها، لا تحتل قضية الصحيفة التركية، وزناً معتبراً، في المقايضة الأوروبية- التركية حول قضية الهجرة في قمة بروكسل أوائل الأسبوع الجاري. الثابت أن عوامل أخرى لعبت الدور الحاسم، وأدت إلى اتفاق ضبط الهجرة داخل الأراضي التركية. العامل الأول والأهم هو حصول الدول الأوروبية على الحد الأقصى مما تحتاجه ديموغرافياً واقتصادياً من أيدٍ عاملة وكفاءات لدى المهاجرين، واللافت هنا أن ألمانيا وحدها استقبلت نحو مليون مهاجر، وهذا رقم غير مسبوق في التاريخ الألماني، وبالتالي ما عادت السوق الأوروبية قادرة على اندماج لاجئين جدد، أو على الأقل ما عادت مهيأة لاستقبال أعداد كبيرة، الأمر الذي يستدعي وضع حد لتدفق المهاجرين وهذا ما كان يمكن أن يقع لولا المغريات الاقتصادية ولولا قابلية الاندماج الضمنية. والعامل الثاني يتعلق بالعبء الكبير الذي تتحمله دول الاتحاد الأوروبي الحدودية، التي تأتي عبرها أفواج المهاجرين، وبخاصة اليونان، التي تعاني أزمة اقتصادية كادت تدفعها إلى خارج الاتحاد الأوروبي العام الفائت، والواضح أن وصول المهاجرين يومياً بالآلاف إلى الحدود اليونانية، لا يتناسب مع البنية التحتية المحلية للاستقبال على الحدود، ولا مع القدرة الاقتصادية اليونانية على تحمل الأعباء المترتبة على هذه الموجات المتصاعدة، والناجمة ليس فقط عن تفاقم الأوضاع الإنسانية في سوريا ومحيطها، وإنما أيضاً وربما بالدرجة الأولى عن جاذبية الدول الأوروبية التي تستوعب المهاجرين، وتحتاج اليهم ولولا الاستيعاب لما تدفق الآلاف يومياً. والعامل الآخر يتصل بدول البلقان التي أقفلت حدودها أمام تدفق المهاجرين، فضلاً عن إقفال بعض الدول الأوروبية أسواقها بحزم أمامهم، ولم تعبأ هذه الدول بتحذيرات نظيراتها حول احترام حقوق الإنسان واللجوء، وقد أدت هذه الحال إلى خلافات حادة داخل الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي استدعى تدخلاً عاجلاً لحل هذه المشكلة التي ما انفكت تتفاقم إلى حد أن اليونان استقبلت خلال شهر يناير ( كانون الثاني) وحده نحو 120 ألف مهاجر. وهناك عامل يتصل باتفاقية شنغين، ذلك أن حجم المهاجرين الكبير يضغط على التنظيم الإداري الأوروبي بطريقة غير مسبوقة، فضلاً عن امتناع الدول الأوروبية عن تقاسم المهاجرين بطريقة عادلة الأمر الذي أدى إلى خلل في التنظيم الداخلي، استدعى البحث عن حل من خلال تحجيم المهاجرين إلى الحد الأدنى إن لم يكن منعهم تماماً. إضافة إلى عامل يتعلق بنمو التيارات المناهضة للهجرة وللأجانب، وإشاعة موجة عارمة من الخوف من أن يسيطر المهاجرون على الدول الأوروبية الضعيفة ديموغرافيا، وبخاصة أن القسم الأكبر منهم ينتمي إلى دين واحد بحسب المتخوفين. لمجمل هذه الأسباب أرتأى الأوروبيون، أن الحل يكمن في ضبط الحدود الأوروبية، وبالتالي الاتفاق مع تركيا، المصدر الأهم للمهاجرين نحو الاتحاد الأوروبي. والحل المنتظر تطبيقه ينقسم إلى 3 أقسام: الأول، ينطوي على إعانة اليونان على تحمّل موجات الهجرة مالياً، عبر تغطية نفقات استقبال المهاجرين ، وبشرياً عبر إرسال حرس حدود لمراقبة الحدود اليونانية ومنع التسلل عبرها. والثاني ، يقضي بمنع دخول المهاجرين الاقتصاديين إلى أوروبا واستقبال اللاجئين لأسباب سياسية حصراً. والثالث ، ينطوي على إلزام تركيا باسترجاع المهاجرين الذين يرفض الاتحاد الأوروبي استقبالهم لأسباب اقتصادية، الأمر الذي كانت تركيا ترفضه من قبل ، وقد تراجعت عن الرفض بعد أن تلقت وعوداً بميزانية مقدرة بمليارات الدولارات، لإعادة الوافدين إلى بلدانهم الأصلية من جهة ولتوفير فرص العمل والإقامة محلياً للمهاجرين السوريين. ولعل التراجع التركي عن الامتناع عن استقبال المرفوضين من أوروبا يشكل منعطفاً في هذه القضية، ذلك أن المرشحين الجدد للهجرة سيكون بعلمهم من الآن فصاعداً، أن احتمال استقبالهم سيكون ضعيفاً وبالتالي لا يستحق مغامرة الهجرة. والراجح أن مناورة تركية قد فشلت في هذا الصدد، وتتعلق بإقناع الأوروبيين ببناء مدينة للمهاجرين على الحدود السورية، على أن تتولى تركيا تنفيذها بأموال أوروبية، ولو تم ذلك لكان الأمر أشبه بالمنطقة الآمنة التي ما برحت أنقرة تعمل على تحقيقها دون نجاح كبير، فالاتحاد الأوروبي لا يريد الانعطاف بالأزمة السورية نحو مجابهة مع روسيا الاتحادية، التي حذرت مراراً من أنها لن تقبل بمثل هذه المناطق على الحدود السورية، وأن الحل الروسي للأزمة السورية يكون سياسياً وليس عبر المناطق الآمنة. تبقى الإشارة إلى أن الحل الأمثل لمشكلة الهجرة إلى أوروبا يكمن في إقفال النزاع السوري والعراقي الذي ألقى ويلقي بكتل بشرية مستقرة في أراضيها على دروب الجلجلة.
مشاركة :