محمد نجيم (الرباط) كان الشاعر والكاتب الفرنسي الشهير أنطونان أرتو (1896-1948) أحد المعجبين بتجربة الرسام الهولندي العالمي فان كوخ، وألّف عنه أحد المراجع المهمة سلَّط فيه الضوء على حياة هذا الفنان الذي شغل الناس وحيّرتهم حياته الخاصة، مثل ما شغلتهم حياة وأعمال بعض عظماء الفن الآخرين مثل سلفادور دالي وبيكاسو ورينوار، وغير هؤلاء من أيقونات الفن الحديث. فبعد معانقة أرتو للحرية، قام بزيارة أحد المعارض الفنية المخصصة لأعمال فان كوخ، فاندهش بعبقريته، وقدرته الخارقة على استنطاق الطبيعة، ورسمها في لوحات، غاية في العمق والجمالية. ومن هنا بزغت فكرة كتابة هذا الكتاب العميق والخالد «فان كوخ منتحر المجتمع» في رأس أرتو، وقد تطلب الأمر أن يتفرغ له فترة. وهذا الكتاب الذي سمّاه بعض النقاد «المرافعة» بالنظر لأهميته، توج في سنة 1948 بجائزة سانت بوف الشهيرة في فرنسا، ويقول المترجم سعيد كريمي إن هذا الكتاب «أضحى مرجعاً أساسياً في النقد التشكيلي، كما كشف عن قدرات أرتو الكبيرة في رد الاعتبار لفان كوخ الذي عانى كل ألوان الفاقة، والإقصاء، والاستغلال، وهو الفنان التشكيلي الاستثنائي الذي ما زال تأثيره واضحاً حتى الآن في التشكيل العالمي. هذا علاوة على انشغال أرتو بالتشكيل، حيث كان هو الآخر فناناً تشكيلياً، وترك مجموعة متميزة من اللوحات، كما جمعته بعض الأعمال التشكيلية والسينوغرافية بكبار التشكيليين العالميين مثل: بيكاسو، وبالتوس، وهذا ما جسده بشكل واضح هذا الكتاب المشحون بفائض من المعاني، والدلالات الرمزية العميقة. النسق الثقافي الغربي وهذا الكتاب القيم، الصادر مترجماً عن المركز الدولي لدراسات الفرجة بطنجة، يؤرخ لتجربة أرتو الشخصية، ومساهمته عن قرب في صناعة التاريخ الثقافي والفني الحديث والمعاصر، حيث كانت له اليد الطولى في تأسيس الحركة السريالية التي صاغ أهم بياناتها، وترأس تحرير مجلتها الشهيرة: «الثورة السريالية». بالإضافة إلى كونه من أهم أعلام الفكر التجريبي، والطليعي، سواء في المسرح أو السينما، أو حتى الشعر. ناهيك عن كون هذا العمل يميط اللثام أيضاً عن تجربة مهمة عاشها أرتو شخصياً، ورسم بروحه، وجسده كل تفاصيلها، وتتجلى في رحلته الأنثروبولوجية التي قادته نحو قبائل التراهوماراس في قِفار المكسيك، لاكتشاف الهندي الأحمر، وثقافة الهنود الحمر التي قلبت مجموعة من المسلّمات التي كانت تؤمن بها الثقافة الغربية. ويرى المعرّب أن صدور الترجمة العربية لكتابي «فان كوخ منتحر المجتمع»، و«خطابات ثورية» لأنطونان أرتو، يهدف إلى المساهمة في تقريب الفكر «الأرتي» من القارئ العربي، ووضع هذين المتنين رهن إشارته، بغية استثمارهما في إثراء التصورات النقدية المتداولة، وتصحيح مجموعة من المغالطات التي تنسب لأرتو في علاقته بالمسرح، أو السريالية، أو الفن التشكيلي. وإغناء المكتبة العربية التي هي في أمسّ الحاجة إلى أعمالٍ من هذا القبيل.
مشاركة :