مواجهة التغيُّر المناخي تفرضها مصالح الدول الكبرى

  • 3/9/2016
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

بعد أسبوعين من المفاوضات خاضتها 196 دولة شاركت في مؤتمر باريس، خرج المؤتمرون في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2015، باتفاق حول مواجهة قضية تغيّر المناخ، ليخلف بروتوكول «كيوتو» الذي انتهى مفعوله عام 2012. وقد أجمع المراقبون على نجاح المؤتمر، واعتبروه إنجازاً تاريخياً للأسرة الدولية وللديبلوماسية الفرنسية، إذ تضمن، للمرة الأولى، التزام جميع الدول المشاركة إجراء خفوضات لانبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون، تكفي لإبقاء الارتفاع في حرارة الجو دون درجتين مئويتين عن مستوى ما قبل العصر الصناعي. ويحصل ذلك من خلال التزام كل دولة إجراء خفوضات طوعية، تتم متابعة تحقيقها دورياً بواسطة آليات سيضعها المؤتمر. كما تضمن الاتفاق، من بين بنود أخرى، تعهداً من الدول الصناعية المتقدمة بتوفير100 بليون دولار سنوياً كحد أدنى، بدءاً من عام 2020 لدعم جهود الدول النامية، بخاصة الفقيرة منها، في خفض الانبعاثات والتأقلم مع نتائج ارتفاع حرارة الجو. يعود نجاح مؤتمر باريس أساساً، الى تمكّن المفاوضات من ردم الفجوة بين موقف الدول النامية من جهة، والدول الصناعية المتقدمة من جهة أخرى، حول مسؤولية كل منهما تجاه قضية الاحتباس الحراري. فالدول النامية كانت تصرّ على التمييز في ضوء المسؤولية التاريخية للدول الصناعية عن انبعاثات غازات الدفيئة المتراكمة في الجو. وهذا ما جسده «بروتوكول كيوتو»، الذي ألزم الدول المتقدمة بخفض انبعاثاتها وأعفى الدول النامية من ذلك. بينما أصرت الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي لم تعتمد البروتوكول، على ضرورة التزام الدول النامية أيضاً كي يمكن الحد من ارتفاع حرارة الجو، نظراً الى أن أكثرية هذه الانبعاثات تسبِّبها دول نامية مثل الصين والهند. وأدى هذا التباين في المواقف الى فشل مؤتمر كوبنهاغن عام 2009، وبعده مؤتمر دوربان في جنوب أفريقيا عام 2012، في التوصّل الى اتفاق جديد. فما هي العوامل والتطورات التي استجدت خلال سنوات قليلة، أدت الى هذا التغير في المواقف، الذي مكّن الأسرة الدولية من التوصّل الى هذا الاتفاق؟ لعل العامل الرئيس والمشترك هو الإجماع العالمي الذي تبلور خلال السنوات الأخيرة، حول حقيقة التغير المناخي وتأثيراته السلبية التي أصبح العالم يعيشها، بدءاً بعنف الأحداث المناخية وتكاثرها، بين عواصف وأعاصير وفيضانات، وانتهاء بحالات غير معهودة من الجفاف. بينما سجلت حرارة الجو متوسطاً عالمياً قياسياً في كل من عامي 2014 و2015. والمهم في ذلك كله، أن هذه التغيرات طاولت في انعكاساتها معظم مناطق العالم. أما العامل الثاني، فهو التطور البارز في الموقف الأميركي، حيث أدت السيطرة المطلقة للجمهوريين على الكونغرس بعد انتخابات 2012، وإصرارهم على عدم التعاون مع الرئيس أوباما في موضوع المناخ ومواضيع أخرى مهمة، الى قيامه باستخدام صلاحياته الرئاسية في تنفيذ سياساته المؤيدة للبيئة، خلال الفترة الثانية والأخيرة لرئاسته. وكان المفاوضون في باريس تفهموا هذا الوضع بأن استجابوا للرغبة الأميركية في جعل التزامات خفض الانبعاثات طوعية، كي لا يتطلب اعتمادها موافقة الكونغرس. كما تأثر الموقف الأميركي بارتفاع المؤيدين لقضية المناخ في أوساط الشعب، حيث أصبحوا أكثرية نتيجة التغيرات المناخية التي طاولت الكثير من الولايات. كما كان للنمو الملحوظ في اكتشافات الغاز الطبيعي، بخاصة الغاز الصخري، دور مهم، حيث وفّر إمكان خفض الانبعاثات من خلال إحلال الغاز الطبيعي المحلّي محل الفحم. كما واكب هذه التطورات بروز نشاطات اقتصادية جديدة تتمحور حول الطاقة المتجددة الخضراء وكفاءة الطاقة، تعوّض عن أي خسائر اقتصادية قد تترتب عن خفض استخدام الوقود الأحفوري على المدى المتوسط والبعيد. بينما العامل الرئيس الثالث، فهو التطور الجذري في موقف الصين التي كانت تعارض سابقاً الالتزام بخفوضات قد تعيق مسيرتها التنموية. لكن تفاقم التلوث البيئي الذي تشهده المدن الصينية، والناجم عن استخدام الفحم بنسبة عالية وعن النمو السريع في قطاع النقل خلال العقود الثلاثة الماضية، أصبح يهدّد مسيرة التنمية واستدامتها. بينما خفض استهلاك الفحم وتحسين كفاءة وسائل النقل سيؤديان بطبيعة الحال الى خفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون ويساهمان في حلّ قضية التلوّث. كما ساهم في تشكيل موقف الصين نمو قدرات الطاقة النووية والطاقة المتجددة وتطور الصناعات المرتبطة بها، حيث تساهم هذه النشاطات الجديدة في تعزيز النمو الاقتصادي وتعوّض عن كلفة التحول من الفحم نحو المصادر البديلة. كما عزز هذا التوجه الجديد وفرة موارد الغاز الطبيعي عالمياً، فضلاً عن الاحتياطات الكبيرة المحلية من الغاز الصخري التي قد تشكل بدائل مرحلية للفحم في المستقبل. ويعزى نجاح المؤتمر أيضاً، الى التطور المهم في مواقف الدول الرئيسية المنتجة للنفط، وعلى رأسها دول الخليج العربية، التي جاءت نتيجة النمو المرتفع في استهلاك الطاقة خلال العقدين الماضيين، لكن بأنماط منخفضة الكفاءة. كما أدى التراجع الكبير في أسعار النفط الذي تشهده الأسواق، الى إضفاء أهمية خاصة على تسريع عملية تنويع القاعدة الاقتصادية وتحقيق التنمية المستدامة من خلال تنويع مصادر الطاقة وتحسين كفاءة استخدام الموارد. وبالتالي، يصبح خفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون نتيجة تلقائية للتنمية الرشيدة، بخاصة أن النشاطات المتصلة بتطوير كفاءة الاستهلاك وترشيده، وتلك المتصلة بتطوير الطاقة المتجددة والبديلة، ستعزز النمو الاقتصادي وتساهم في تنويع قاعدة الإنتاج.

مشاركة :