جرس انذار من الأسلحة النووية في 'البحيرة الميتة'

  • 9/18/2023
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

بين عامي 1949 و1989 في موقع بمدينة سيميبالاتينسك للتجارب النووية (SNTS)، تم تنفيذ ما مجموعه 468 تفجيرًا نوويًا، منها 125 انفجارًا جويًا و343 انفجارًا تحت الأرض. تجاوز الناتج الإجمالي للأسلحة النووية التي تم اختبارها في الغلاف الجوي وتحت الأرض في SNTS في منطقة مأهولة بالسكان. وهذه الرواية "البحيرة الميتة" للروائي الكازاخستاني حميد إسماعيلوف وترجمتها مريم خالد وصدرت عن دار العربي، تكشف آثار المخلفات والإرث البيئي النووي الذي تركته الحرب الباردة على الإنسان، حيث نشأ بطلها "يرزان" في تلك المنطقة النائية التي يتم فيها اختبار الأسلحة النووية، وهو رجل يبلغ من العمر سبعة وعشرين عامًا محاصرًا داخل جسد شاب يبلغ من العمر اثني عشر عامًا. يصادف راوي غير مسمى يرزان أثناء سفره عبر الريف الكازاخستاني بالقطار. للوهلة الأولى، يفترض أن يرزان هو صبي صغير يبيع الزبادي ويعزف على الكمان لتسلية الركاب أثناء الرحلة. ولكن عندما يسمع صوت الصبي العميق، يصاب الراوي بالصدمة حيث يكتشف أن يرزان رجل بالغ. وهكذا نعود بالزمن عدة سنوات لنتعرف على حياة يرزان. في صغره كان يرزان يعيش مع والدته وأعمامه وأجداده في أحد منزلين قرب محطة "كارا شاجان"، وهي إحدى المحطات الصغيرة التابعة لمحطة قطارات شرق كازاخستان. أظهر منذ صغره موهبة موسيقية وتعلم العزف على الدومبرا والكمان. تقع المدرسة على بعد مسافة طويلة بالسيارة، ويقضي الصبي أيامه في اللعب مع "أيسولو"، ابنة العائلة المجاورة، والعزف على الكمان والاستماع إلى الخرافات. يلتقط الروائي الجمال الصارخ للمناظر الطبيعية الكازاخستانية بشكل فعال لدرجة أنه يمكن أن يكون شخصية أخرى في الكتاب. فضلا عن كتابة غنائية وشعرية مع مقتطفات من كلمات الأغاني الشعبية والشعر وكل ذلك بالنهاية يرتبط بحكاية يرزان. الحياة بسيطة هنا في السهوب الكازاخستانية، وينبغي أن تكون طفولة يرزان سعيدة. ومع ذلك، كما هو الحال في العديد من هذه القصص، هناك ظل مظلم يكمن في الخلفية. بين الحين والآخر، تضطرب حياة العائلات بسبب صوت الانفجارات الصادرة من موقع التجارب النووية، "إنه شيء رهيب وفظيع لا مفر منه، ويأتي هادرًا ورعدا". في هذا المشهد، يسافر يرزان وجده وعمه بالقطار عندما يسمعون "الصوت المنسي الصاخب" للمنطقة، يتذكر يرزان ذلك اليوم، عندما انقلبت العربات عن المسار واستلقت في السهوب. يعمل عم يرزهان شاكين (الذي يصادف أنه والد أيسولو أيضًا) في المصنع الذري. كان شاكين مؤيدًا قويًا للدعاية السوفيتية في ذلك الوقت، ويغتنم كل فرصة لإلقاء محاضرة على عائلة يرزان حول أهمية تطوير القدرة النووية. وتأتي اللحظة المحورية في حياة يرزان عندما يأخذ العم شاكين الأطفال في زيارة إلى مكان عمله و"البحيرة الميتة ". وعلى الرغم من التحذير من لمس أو شرب مياه هذه البحيرة، إلا أن الصبي الصغير لا يستطيع مقاومة جمالها. بعد أن أمسك بيد أيسولو للحظة، أطلق سراحها، وخلع ملابسه الداخلية وغطس في المياه الملوثة/ المحرمة. أراد إثارة إعجاب حبيبته الصغيرة، ولكن منذ تلك اللحظة فصاعدًا، لم ينم أبدًا. بحلول الوقت الذي نراه يبيع الزبادي في القطار، كان يبلغ من العمر 27 عامًا، لكنه يبدو كصبي يبلغ من العمر 12 أعوام. تقوم عائلة يرزان بإطعام الصبي الكبد وزيت السمك والخضروات. يقومون بزيارة المعالج الإيماني ويلجأون إلى أساليب جسدية بشعة ومؤلمة في محاولة لتمديد عظام الصبي. كل المحاولات باءت بالفشل، ويشعر يرزان بالغضب والخوف عندما يرى أيسولو تكبر جميلة أمامه فيضطر إلى أن ينزلق بعيدًا عنها. لقد كانت البحيرة جميلة تشكلت بعد انفجار قنبلة ذرية. بحيرة خيالية، هناك في وسط السهوب المسطحة، وهي عبارة عن امتداد من المياه الخضراء الزمردية، لا حركة، ولا أمواج، ولا تموجات، ولا ارتعاش - سطح زجاجي أخضر اللون لا يحمل سوى انعكاسات حذرة لوجوه الأولاد والبنات وهم يختلسون النظر إلى قاعه بالقرب من الشاطئ. هل يمكن العثور على بعض الأسماك أو الوحوش العميقة في هذه المياه الكثيفة الساكنة؟. الجميل في الرواية أنها تُروى بأسلوب أدبي بسيط للغاية ولكنه فعال ومؤثر. حتى في الحلقات الأكثر سعادة من الرواية التي تروي شباب يرزان كموسيقي واعد، فإن اللغة مشوبة بحزن هادئ ناجم عن الطريقة الذكية التي بنى بها إسماعيلوف الرواية. بالإضافة إلى الموضوعات الأكبر مثل الحرب النووية وأخلاقيات الحرب وتأثيراتها المريرة على الطبيعة والإنسان. هذه قصة قاتمة ومخيفة، ليس هناك نهاية سعيدة هنا، فعلى صعيد أكثر قتامة بكثير، فإن الخوف المهيمن من القنابل النووية وحرب عالمية ثالثة تلوح في الأفق يمنح القصة إحساسًا مروعًا تقريبًا: "نحن مسافرون، والسماء فوقنا مليئة بطائرات العدو".في "البحيرة الميتة"يقدم إسماعيلوف لمحة مثيرة للاهتمام عن ثقافة مختلفة تمامًا عن ثقافتنا. الرواية ممتعة، ومجملها قوي جدًا، خاصة فيما يتعلق بنهايتها. يذكر أن حميد إسماعيلوف عام 1954 في قيرغيزستان، انتقل إلى أوزبكستان عندما كان شابًا. يكتب باللغتين الروسية والأوزبكية، ترجمت رواياته وأشعاره إلى العديد من اللغات في أوروبا منها: الألمانية والفرنسية والأسبانية. في عام 1994 أجبر على الهروب إلى المملكة المتحدة بسبب"ميوله الديمقراطية غير المقبولة". يعمل الآن في مؤسسة بي بي سي العالمية. نشر روايته الأولى باللغة الإنجليزية "The Railway" في عام 2006 ، ثم رواية "شاعر وبن لادن" عام 2012. ما زالت أعماله ممنوعة من النشر في أوزبكستان حتى اليوم. مقتطف من الرواية بدأت تلك القصة بأقل الطرق إثارة للاهتمام بالمرة. كنت مسافرًا بالقطار عبر سهوب كازاخستان الواسعة وقد مرت أربع ليالٍ بالفعل. اعتدت سماع العمال المسئولين عن صيانة مسارات القطار في المحطات البعيدة وهم يقرعون بمطارقهم على عجلات القطار ويشتمون باللغة الكازاخية. في كل مرة أسمعهم، كنت أمتلئ بالفخر سرًّا لأنني أفهم لغتهم. خلال النهار، تمتلئ الأرصفة وأروقة العربات بالسيدات والأطفال الذين يتكلمون اللغة نفسها، وفي كل مرة نتوقف في إحدى المحطات، كان القطار يمتلئ بالعديد من الباعة وجمعيهن نساء يبعن جلود الجمال، والسمك المجفف أو كرات اللبن الحامض. كان هذا منذ وقت طويل. ربما تغيرت الأحوال الآن، على الرغم من أنني أشك في ذلك. على أيه حال، كنت أقف في نهاية إحدى العربات - لليوم الرابع - أحدق في السهوب الكئيبة أمامي والتي تبعث على الملل عندما ظهر صبي في العاشرة أو الثانية عشرة في الناحية الأخرى من العربة. كان يحمل كمانًا وبدأ يعزف فجأة ببراعة مدهشة وثقة لم أرَ مثلها. فُتحت أبواب المقصورات كلها وظهرت العديد من الوجوه الناعسة لتشاهد الصبي. ما سمعوه لم يشبه الموسيقى الغجرية الصاخبة، حتى إنه لم يكن لحنًا محليًّا متعارفًا عليه. لا، كان الصبي يعزف مقطوعة لـ"برامس"، بالتحديدإحدى النوتات الموسيقية لـ"هنجاريان دانسز" Hungarian Dancesالشهيرة. ظل يعزف وهو يسير في اتجاهي، وبعد أن استولى على انتباه العربة بأكملها ووقف الركاب يحدقون فيه وأفواههم مفتوحة في دهشة توقف فجأة عن العزف. علَّق الكمان على كتفه كأنه بندقية ثم نادى بصوت أجش كصوت الرجال تمامًا: - مشروب محلي رائع. عضوي مئة بالمئة! ثم أنزل كيسًا من القماش كان يعلقه على كتفه الثانيوأخرج زجاجة بلاستيكية كبيرة بداخلها مشروب يشبه اللبن الرائب ظننت أنه إما شراب "العيران" أو "الكوميس". اقتربت منه دون أن أعرف السبب. - أيها الصبي الصغير، ما ثمن "الكوميس" الذي لديك؟ رد الصبي المشاغب في تحدِّ بلهجة روسية واضحة: - أولًا، إن تلك الزجاجات ليست ملكي، إنها للفرس. ثانيًا هذا ليس "كوميس" بل شراب "العيران". ثالثًا، أنا لست صبيًّا صغيرًا. حاولت أن أتلطف معه فقلت بعفوية: - لكنك لست فتاة أيضًا، أليس كذلك؟ صاح فيَّ الصبي بصوت عالٍ سمعته العربة كلها: - أنا لست امرأة. أنا رجل. أتريد أن أريك ذلك؟ هيا اخلع سروالك! لم أعرف وقتها ماذا أفعل، أغضب أم أخفف من حدة الموقف؟ ففي النهاية إن تلك أرضه وأنا مجرد زائر. لذلك رققت صوتي وسألته: - هل أسأت إليك بأي طريقة؟ إن كنت فعلت ذلك فأنا أعتذر... لكنك تعزف "برامس" كأنك إله. رد بنبرة أشبه بالهمس: - ليس هناك فائدة من إهانتي، كما أنني قادر على الرد على أي شخص يسيء إلي... أنا لست فتى صغيرًا. لا تنخدع بمظهري الصغير، أنا في السابعة والعشرين. هل تفهم هذا؟ أدهشني ذلك. هذه هي بداية القصة. بدا الشاب كأنه فتى في العاشرة أو الثانية عشرة كما ذكرت مسبقًا. لم يكن هناك أي شيء غريب في مظهره يوحي بأنه قزم، لا أطراف غير متساوية ولا تجاعيد في الوجه ولا أي شيء من هذا القبيل. بالطبع، لم أصدقه في البداية، وبدا ذلك على وجهي، وهو ما دفعه إلى أن يمد يديه في جيبه ويخرج جواز سفره بخفة ويناولني إياه: - هيا، ألقِ نظرة على جواز سفري. وقف يبيع "العيران" لامرأة أخذت تمدحه بـ"أين تعلمت أن تعزف بهذه الطريقة؟ هل يمكنك أن تعزف "دارك آيز"؟ أو "كاتيوشا"؟"، ووقفت أنا مثل الأبله، أمرر عيني بين جواز سفره ووجهه. كل شيء مطابق، لكن الوجه الذي يحدق فيَّ من الصورة لا يمكن أن يكون سوى وجه طفل صغير مشرد. سألته: - ما اسمك؟ رد باقتضاب وهو يشير بإصبعه إلى اسمه في جواز السفر: - "يرزان". ثم قلت بطريقة مضحكة ونبرة بها شيء من الاعتذار: - هل يمكن أن أشتري القليل من شراب "العيران" خاص.. أقصد القليل من شراب "العيران"؟ أخذ جواز السفر خاصته ثم قال: - هل قلت إن هذه كانت مقطوعة لـ"برامس"؟ تفضل إنها آخر زجاجة. بعت العديد اليوم. ذهبنا بعد ذلك إلى مقصورتي لأعطيه النقود، وعندما رأيت الرجل في المقعد المقابل لي نائمًا طلبت من "يرزان" أن يجلس قائلًا له إنه ليس من المنطقي أن يظل واقفًا طالما بإمكانه أن يستريح. - وهل هناك أي شيء منطقي؟ قال جملته تلك بالنبرة الحادة والعنيفة نفسها التي كان يتكلم بها منذ قليل. شعرت أن سؤاله لم يكن موجهًا لي، بل بدا موجهًا إلى ذلك القطار الذي يجوب السهوب، وإلى السهوب الساخنة التي تمتد فوق الأرض، وإلى الأرض التي تنجرف بين النور والظلام، وإلى الظلام الذي.

مشاركة :